الترقي المؤسسي (نموذج العقيلات)

يكاد يكون السؤال الأول الذي أواجهه عند لقاء كثير من حديثي الوظيفة، هو ''ما هي الوسيلة لصعود سلم الترقي الوظيفي ونيل المعالي المؤسسية؟'' وكنت كثيرا ما أستفسر ممن أثق بجدوى سؤاله ممن بلغوا مراتب قيادية في مؤسسات وشركات مرموقة، عن سيرتهم في صعود درجات الهيكل التنظيمي وبلوغ قمته. ومما حصلت عليه من الملاحظات والتوصيات لم أستطع أن أكون وصفة نموذجية للرقي الوظيفي في المؤسسة السعودية، وذلك عائد بالدرجة الأولى لتنوع بيئة الأعمال السعودية فيما أعتقد وضعف المحصلة التاريخية لنمط العمل في المملكة. هذا القصور في تكوين نموذج عام ومناسب للترقي في المؤسسة السعودية لم يثنني عن إبداع نموذج ينسجم مع الراسخ من القيم الاجتماعية والمؤسسية ويستند إلى إرث حضاري من ممارسة القيادة واكتسابها في البيئة السعودية، لذا عمدت إلى استلهام نمط الإدارة والقيادة لدى العقيلات - وهم تجار الصحراء - في وضع وصفة للترقي الوظيفي تتكون من ثلاث مراحل كل منها تمثل طورا من أطوار حياة العقيلي، كما عمدت إلى استخدام تعابير من لهجة العقيلات لوصف السلوكيات الفاعلة في تمكين عملية الترقي المؤسسي.
يبدأ العقيلي حياته العملية (ملحاق) في الحملة كذلك يبدأ الموظف حياته العملية في الوظائف الدنيا من الهيكل التنظيمي للمؤسسة وعليه أن يمارس سلوكيات تجعله يستفيد من التركيبة البنائية للبيئة المؤسسية في اكتساب الاهتمام من القيادات الفاعلة في المؤسسة وحشد عوامل الترقي، من هذه السلوكيات التي يجب الاهتمام بها والعمل على ممارستها خمس مثلتها في صورة تعليمات هي كما يلي:
1- خل خشمك بالأرض
إن أكثر ما يواجه الموظف المستجد من صعوبة، يكمن في إدارة كبريائة، فكثير من الموظفين المستجدين يجلب معه للوظيفة أنفة وشمما من تلقي الأوامر واستعدادا للعصيان يتمثل في كثير من التصرفات منها التأخر عن العمل أو ترك المهام دون إنجاز وتذمر مستمر من الرئيس المباشر، وخصوصاً عندما يكون من فئة لا تستأثر باحترام الموظف، أما العقيلي في زمنه فكان يحرص على إبداء الخضوع والاحترام لشيخه في الحملة وكل من هو أقدم أو أكبر منه ولا يتذمر من كثرة الأعمال مهما بلغت لعلمه أن ذلك هو أحد أهم عوامل اكتساب الرضا والإعجاب الذي يقود للاعتماد وبناء الثقة التي يحتاج إليها العقيلي في مسيرته الحياتية.
2- خاو لك رئيس
العقيلي في بداية حياته يصاحب أحد العقيلات الأكبر منه والذي ربما تربطه به علاقات عائلية ويتتلمذ على يده كما يستشيره في كل شؤونه ويخلص في اكتساب المعرفة منه فلا يجادله أو يناقش توصياته مع أحد آخر. والموظف المستجد بحاجة إلى اكتساب المعرفة بواقع المؤسسة البيئي والتصرف بما ينسجم مع ذلك لذا هو بحاجة إلى إيجاد زميل عمل أقدم منه في المؤسسة ومن الأفضل أن يكون رئيسه المباشر بحيث يتتلمذ على يده ويتعلم منه مهارات وسلوكيات العمل التي تضمن انسجامه الاجتماعي والإنتاجي في المؤسسة.
3- خلك قرم
القرم لدى العقيلات هو الشخص الذي يبادر إلى عمل ما يجب عمله بحيث لا ينتظر الأوامر ويجتهد في تنفيذ العمل على أكمل وجه يعرفه، وعليه أن يبذل الطاقة المناسبة ويبدي الحماس والسعادة والرضا بما يتولاه من أعمال، هذا ما نسميه اليوم في بيئة العمل الوجدان الإيجابي للمبادرة، هذا الوجدان يشعر الموظف بسعادة غامرة عند تحقيق إنجاز معين، وهو مبني على احترام عميق للذات وتفعيل للقدرات والمهارات بصورة منتجة.
4- لا تصير ملقوف
إن أكثر ما يأنف منه العقيلات هو التطفل في شأن من شؤونهم، لذا يرون في ذلك سوء سلوك حري بتدمير مستقبل العقيلي، فالخصوصية لدى العقيلات موضع احترام، لذا لا يسأل العقيلي زميله مهما علت أو دنت مرتبته عن ماله أو تجارته أو علاقاته الخاصة، هذا أيضا حري بالموظف المستجد أن يوليه جدير الاهتمام، فلا تبدر منه نزعة للتدخل في شؤون زملائه أو ميل لترصد الفرص في معرفة ما لا يجب أن يعرف، فالموظف المستجد عليه إبداء حصافة وتحكم بالذات.
5- اشتر لا تبيع
العقيلي المستجد يحرص على اكتساب المعرفة والمهارة ممن هم أكبر منه وأقدم ويحرص على ألا يبدي رأياً يقارع به آرائهم ومعارفهم ففي هذا تعجل في تكوين الأحكام وقول بغير روية، لذا يتمثل تعبير الشراء فهو يشترى الحكمة والمعرفة منهم بما يبديه من خضوع واستماع ولين جانب ولا يبيع بمعنى لا يبدي رأيه في شؤون العقيلات، حيث لا يقبل منه ذلك هذا أيضا سلوك مطلوب للموظف المستجد أن يمارسه، فعليه أن يكرس جهده في الاكتساب المعرفي والمهاري وألا يعمد إلى بناء رأي مؤسس على مفهوم ناقص أو غير صحيح.
المرحلة الثانية في حياة العقيلي، عندما يحصل الملحاق على تزكية شيخ الحملة ويصبح عقيليا فخلال هذه المرحلة وبما اكتسب من مهارات في المرحلة الأولى يصبح مؤهلاً لتقبل التعليمات المناسبة للمرحلة، حيث يحصل على قدر من السلطة في إدارة شؤونه ويدير علاقاته مع العقيلات الآخرين ويتحمل مسؤوليات لم يكن قد عهدها من قبل، وهنا نشبه ما يجب أن يمارسه العقيلي في هذه المرحلة بالموظف الذي انتقل من وظائف القاع المؤسسية إلى وظائف الإشراف أو ما يمكن التعبير عنه بالإدارة الوسطى لذا يمكن أن يتلقى التعليمات التي تتمثل في التالي:
1- لا يصير لك معزب
إن أكثر ما يحذر منه العقيلي ألا يكون مستقلاً في قراراته، لذا يحرص ألا يكون تحت سيطرة أو وصاية أي كان حتى ولو كان من الأقرباء ذوي النفوذ العالي أو شيخ الحملة، فالعقيلي يتعهد لمن يستأمنه على ماله بصورة شخصية ولا يسمح لأي كان أن يستلبه الإرادة في عمل ما يراه صواباً، وكذلك الموظف الذي يولى الصلاحية يكون مسؤولاً عن تلك الصلاحية ولا يخضع لوصاية، لذا يجب على الموظف أن ينأى بنفسه عن الصراعات المؤسسية وخصوصاً تلك التي تكون بين المسؤولين الكبار وألا يحتسب في خانة أحد فذلك نذير بتدمير مستقبله المؤسسي وخصوصاً عندما يزول نفوذ صاحبه.
2- لا تنقل الهرج
على الموظف الحذر من أن ينساق للإغراء الذي يبديه بعض المسؤولين الكبار في المؤسسة مقابل أن يقوم بنقل القال والقيل، حيث يوضع في موقف حرج يجبره على معرفة أمور ليست من طبيعة عمله والعلم بها مضر أكثر من كونه مفيدا، حيث يصبح أداة في الصراعات المؤسسية بين الرؤساء وبذلك يفتقد المصداقية ويقل الاعتماد عليه ويفقد الاحترام من الجميع ومتى حسم المتصارعون الكبار خلافهم يكون هو كبش الفداء.
3- افتح بيتك
عندما يحقق العقيلي تزكية رئيس الحملة يصبح مؤهلاً لتقبل الاستثمارات التجارية وبذلك يستعد لدور بناء العلاقات العامة فيعمد إلى دعوة المستثمرين ويكرمهم ويهتم بالانطباع الذي يتحقق من ذلك، وهذا ما يجب أن يتولاه موظف الإدارة الوسطى، حيث عليه أن يهتم ببناء العلاقات مع زملائه ورؤسائه وخصوصاً خارج نطاق العمل، مما يخلق انطباعا بالمهارة الاجتماعية يضاف إلى الانطباع بكونه موظفا متميزا، هذا الأمر ينقل العلاقة مع الرؤساء والزملاء إلى فضاء أرحب وأكثر تأثيراً في اكتساب التقدير والاحترام.
4- خلك ماركة
السمعة التجارية مهمة جداً للعقيلي لذا يهتم العقيلي بخلق الانطباع الذي يخدمه بصورة أكبر وذلك من خلال تعزيز سمة محددة ذات قيمة لمن يريد أن يؤثر فيهم فقد تكون مهارة المساومة أو تكون معرفة عميقة بطباع الإبل أو الأغنام أو شدة على النفس، والموظف في الإدارة الوسطى عليه أن يفعل الشيء ذاته ويخلق لنفسه انطباعا سائدا يمثل علامة مميزة له وينشر ذلك بين المؤثرين في سيرته الوظيفية.
5- خلك حرفي (احترف شغلك)
يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ''إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه'' العقيلات يرددون هذا الحديث باستمرار في صورة حث للذات على اكتساب المعرفة والمهارة في طبيعة عملهم لعلمهم أن التقانة هي سبيل تفوق في ممارسة الأعمال، لذا يجب على موظف الإدارة الوسطى تمثل ذلك الحديث والسعي للاكتساب بصورة مستمرة وعدم الركون إلى حقيقة أنه أصبح مديرا وبات الترقي مرهونا بالعلاقات المؤسسية.
عندما يحقق العقيلي قدراً من النجاح في حياته يكتسب تفوقا على أقرانه من العقيلات ويتقدم لتولي مهام قيادة بعض العقيلات الآخرين ويشكل ما يسمى (خبرة) وهي مجموعة من العقيلات بين السبعة والعشرة يلتمون في صورة فريق، يشتركون في بعض المصاريف ويمثلون وحدة من وحدات الحملة ويمثلهم رئيس الخبرة لدى أمير الحملة وهذا الوضع لدى العقيلات شبيه بوضع الإدارة العليا في المؤسسات المعاصرة لذا على موظف الإدارة العليا الاهتمام بتطوير قدرات معينة والتصرف ضمن أطر محددة تضمن التقدم للوصول إلى المنصب القيادي الأول في المؤسسة، وهذه الأطر تتمثل في التوصيات التالية:
1- تنجع البروق
العقيلي رئيس الخبرة يهتم بالمحيط الأكبر المؤثر في تجارته وتجارة زملائه من العقيلات، لذا يهتم بتقصي أخبار الحالة الاقتصادية للقبائل التي يتاجر معها وكذلك الحالة السياسية للبلدان التي يرتادها ويتحسس الفرص المواتية لتحقيق فوز تجاري كما يتحسس المخاطر التي تحدق به وبتجارته. العقيلي يقوم بما نسميه اليوم (النظر للصورة الكبرى)، حيث تبرز رويته وحصافته في استكشاف الغموض واستقراء المستقبل والتصرف بناء على ذلك وهو ما يعتبر من أهم أدوار المدير في الإدارة العليا في المؤسسات الحديثة.
2- سايس الناس
عندما يصبح العقيلي رئيس خبرة تبرز قدرته على إدارة العلاقات الإنسانية، فواقع الناس الذين يتعامل معهم العقيلي مليء بالتحديات والعقبات والمآسي، حيث تكون ظروف الحياة صعبة ومؤلمة أحياناً، لذا يبدي هؤلاء الناس تصرفات تنسجم مع واقعهم مما يستدعي أن يكون العقيلي ملما بذلك الواقع وقادرا على اكتساب الثقة والاحترام من خلال ما يبديه من مهارة في إدارة تلك العلاقات، وهذا ما على المدير في الإدارة العليا تمثله فهو محاط بموظفين وعملاء وموردين وملاك وكل منهم له علاقة يجب أن تدار بما يحقق الرضا والتعاون.
3- دقق الحساب تطول العشرة
يهتم العقيلات بالتوثيق في معاملاتهم ولا يتركون أي خلاف دون حسمه بصورة تنهي معه أي إشكال، لذا كان العقيلات يبدون حازمين في المطالبة بحقوقهم ودفع حقوق الآخرين وكانوا على درجة عالية في القدرات المحاسبية ومراقبة التكلفة والعمل على إدارة الحسابات المشتركة بينهم بوضوح وشفافية، حيث يؤمن العقيلي أن بناء المصداقية الدائمة يأتي من مكافحة الشكوك والتي تتكون من غموض المعاملات ورخاوة التوثيق، وهذا ما يجب على التنفيذي اليوم في المؤسسات المعاصرة الحرص على اكتسابه فالشفافية والتوثيق والحزم في ضبط المعاملات هي ما يكسب التنفيذي القدرة على بناء الثقة واستمرارها.
4- خلك حذر (ما كل بيضاء شحمة ولا كل لماع ذهب)
الحذر في العمل التنفيذي مهم فالحياة مليئة بالمفاجآت التي يفجرها المنافسون ومنتهزو الفرص وقليلو الأمانة، فعلى التنفيذي أن يكون واعياً لما قد يمثل له خديعة أو استغفالا وألا يترك المجال مفتوحاً للاصطياد في محيطه، فالعقيلي كان حذراً متوجساً من كل ما يبدو فرصة سانحة وسهلة، فالحياة ليست كذلك في نظره لذا يهتم كثيرا بالاستقصاء والتمحيص في كل معاملة يقوم بها.
5- حط الله رقيب إن كان مالك رقيب
عندما يصل العقيلي إلى مرحلة رئيس الخبرة يكون قد تشبع بالخبرة والحصافة التجارية وبات أقدر على تحقيق المكاسب والتفوق في المفاوضات مما يجعله في موقع يستطيع أن يغش ويخدع ويغبن غيره في المعاملات، هذه القدرة تمثل خطراً على القيم التي يتمثلها العقيلي لذا يميل إلى تنشيط ضميره بمراعاة الله في عمله فهو يعلم أن الله يراقب كل ما يسر ويبدي، وهو يعلم أن لا رقيب عليه إلا الله لذا يستعين بذلك لمقاومة الطمع والرغبة في الاكتساب غير المشروع.
هذه الوصايا شكلت حياة العقيلي في مسيرته الحياتية وكانت عاملاً مهماً في بناء نمطية التجارة لدى العقيلات وكانت عاملاَ مهماً في ازدهار تجارة العقيلات على مدى 500 عام وسيادة نموذجهم الإداري في ذلك الوقت، لذا أرى أن تمثلها ليس كفيلاً فقط بتحقيق التقدم ضمن الهيكل التنظيمي للمؤسسة الحديثة بل هو مهم في تشكيل البيئة المؤسسية التي تضمن فعالية المؤسسة بصورة عامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي