مشاريع التخصيص والمدن الاقتصادية والصناعية: مقارنة دولية ودروس مستفادة
حرصت الدولة - أعزها الله - بقيادة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله، على تشجيع ودعم مشاريع التطوير والتنمية في المملكة. وتوضح الميزانيات السنوية، حجم المبالغ المرصودة، وبسخاء، للمشاريع في جميع المجالات، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، التعليم العام، والتعليم الجامعي، والخدمات الصحية، والمياه، والصرف الصحي، وتصريف السيول، والمواصلات، والاتصالات، إضافة إلى مبادرات ومشاريع المدن الاقتصادية، ومشاريع المدن الصناعية، في عدد من المدن والمناطق مثل الزلفي، والخرج، وسدير، ومشاريع تخصيص عدد من القطاعات ومنها الاتصالات والمياه، والصرف الصحي، والأمانات وغيرها.
ونظراً للحجم الكبير للاستثمار الحالي (والمتوقع) في هذه المشاريع والمبادرات، إلى جانب حجم المخاطرة في مثل هذه المشاريع، فإنه من المهم أن يتم إجراء عمليات مراجعة وإعادة تقييم للقرارات التي تم اتخاذها، والخطط التي يتم العمل عليها، وطريقة ومنهجية وكفاءة إدارة هذه المشاريع. ومما يعزز الحاجة إلى القيام بوقفة ومراجعة وتقييم للموقف، الآثار المترتبة لبناء وتشغيل هذه المشاريع، والآثار المتوقعة للتغيرات الحالية والمتوقعة للأزمة المالية العالمية، ولعل من أهمها تردد الشركات الاستثمارية العالمية في الدخول والمشاركة، وكذلك زيادة الأعباء المالية على ميزانية الدولة. ولعل من أهم ما يميز العمل القيادي والإداري الناجح، وخصوصاً في المشاريع الاستراتيجية ذات الميزانيات العالية، المراجعة المستمرة والتغيير إذا لزم الأمر، والاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية، واتخاذ القرار المناسب والشجاع في جميع، وفي أي مرحلة من مراحل المشروع. كما أننا يجب أن نطلع ونستفيد (بشكل صحيح) من تجارب الدول الأخرى في مشاريع مماثلة، مثل بريطانيا، وسنغافورة، ودبي وغيرها، والتي عملت على مشاريع صناعية وتجارية لجذب استثمارات أجنبية، وكذلك مشاريع تخصيص في عدد من الخدمات ومنها الاتصالات، والمياه، والطيران المدني. وإذا أخذنا مبادرة بناء عدد من المدن الاقتصادية وعدد آخر من المدن الصناعية، فليس من الواضح لماذا يتم العمل بشكل مستقل على هاتين المبادرتين. فالهيئة العامة للاستثمار تشرف على مبادرة إنشاء المدن الاقتصادية، بينما تقوم هيئة المدن الصناعية على الإشراف على بناء المدن الصناعية. كما أن معايير الاختيار لتحديد مواقع المدن الاقتصادية والصناعية غير واضحة. فهل تعتمد معايير اختيار مواقع المدن الاقتصادية والصناعية على التوزيع الجغرافي، أو على مقومات وعناصر الاستثمار. فلا يمكن فقط الاعتماد على التوزيع الجغرافي وتوفير فرص عمل في مناطق ومدن، ربما لا تمتلك المقومات الاستثمار الناجح مثل وجود سوق جاهز، أو متوقع، ووجود موارد مادية، أو بشرية، ذات ميزات وجذب استثماري مثل المعادن، والغاز، والبترول، والمنتجات الزراعية. وقد يكون من المناسب إعادة النظر في نموذج الأعمال المستخدم، وتحديد مدى مناسبة هذا النموذج في ظل التغيرات المحلية والإقليمية والعالمية.
ومن الواضح أن كلاً من الهيئة العامة للاستثمار وهيئة المدن الصناعية، تعمل بشكل مستقل. وبما أن الهدف من إنشاء هذه المشاريع، سواءً المدن الاقتصادية أو المدن الصناعية، هو تشجيع الاستثمار وتوفير البيئة والفرص الاستثمارية المناسبة، فقد يكون من الأجدى اقتصاديا العمل على هذه المشاريع بشكل موحد. ويمكن أن يلعب المجلس الاقتصادي الأعلى دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.
من ناحية أخرى نلاحظ حجم الصفقات والاتفاقيات والقروض الميسرة، وبمبالغ كبيرة، التي وفرتها الدولة، سواءً من خلال توفير أراض خام، وتقديم دعم مالي لتشييد البنية التحتية، وغيرها. وهذا الدعم إذا ما استمر بالشكل الحالي، دون التأكد من وجود جدوى اقتصادية، قد يمثل عبئاً كبيراً على الدولة، وقد يتحول إلى خسائر مالية. والتكلفة لا تتضمن فقط تكلفة الأراضي والإنشاءات، بل تكلفة صيانة وتشغيل هذه الإنشاءات. وأخشى ما نخشاه أن تستنزف هذه المشاريع مبالغ مالية سنوية، دون تحقيق العائد الاستثماري المطلوب.
من ناحية أخرى، قد يكون من الأجدى والأفضل مراجعة تجربة تخصيص بعض الخدمات الحكومية. ويمكن تعلم الكثير ليس فقط من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، ولكن، وهو الأهم والأقرب للوطن، الاستفادة من تجربة تخصيص قطاع الاتصالات. وقد أخذت تجربة تخصيص قطاع الاتصالات، وما زالت، أكثر من 15 سنة، مكلفة الدولة والمواطنين مبالغ كبيرة، كان من الممكن تجنبها. ولا شك أن قرار تخصيص قطاع الاتصالات يعد قراراً صحيحاً من الناحية الاقتصادية، وهذا يعود إلى قدرة قطاع الاتصالات عالمياً على توفير استثمارات وخلق إيرادات تغطي التكاليف المطلوبة للاستثمار في وتشغيل القطاع. وينطبق هذا العامل في قطاع الطيران. ولكننا لا نرى توافر هذه الخاصية المهمة في قطاعات أخرى، مثل قطاعات المياه، والصرف الصحي، وتصريف السيول، وأمانات المدن. وينبغي أن نحذر من استخدام وتعميم نموذج وتجربة تخصيص قطاع الاتصالات، كما هو، على مشاريع تخصيص القطاعات الأخرى. وهذا ما نراه في طريقة ومنهجية تخصيص قطاع المياه والصرف الصحي. حيث بدأ التركيز في مشروع التخصيص، كما فعلت شركة الاتصالات في بداية تخصيص قطاع الاتصالات، على الحصول على مرونة مالية في اعتماد والدفع للمشاريع، بعيداً عن رقابة وزارة المالية. وفي كل مشروع تخصيص، نرى أن تركيز إدارة المشروع، على توفير المرونة المالية، بعيداً عن أهداف ومتطلبات التخصيص، وهي رفع الكفاءة التشغيلية، وتحسين مستوى الأداء. وبمقارنة توفر خاصية التمويل الذاتي للخدمة في قطاع الاتصالات، نرى أن هذه الخاصية، وهي المتطلب الأساسي، لا تتوافر في القطاعات الأخرى مثل المياه والصرف الصحي. وتتمثل الخطورة في مثل هذه القطاعات، ومع غياب الرقابة الحكومية قبل الصرف، في توجه إدارات هذه القطاعات إلى زيادة الأعباء المالية على الدولة. ويمكن عقد مقارنة بين ما يصرف قبل التخصيص، وما بعد التخصيص، وتحديد مدى التحسن في الخدمات. وإذا نظرنا في قطاع الطيران، فمن الناحية الاقتصادية، وقدرة القطاع على توفير التمويل الذاتي، يعد هذا القطاع جذابا جداً للمستثمرين الداخلين والخارجين. إلا أننا نأمل بأن يتم استخدام نموذج عالمي ناجح، مثل ما تم في بريطانيا، وليس اجتهادات ومحاولات فردية، ليست مبنية على أسس علمية وتجارب عالمية.
ويمكن الاطلاع على تجارب الدول الأخرى في هذا المجال، والاستفادة منها بأكبر قدر ممكن، سواءً من خلال الأخطاء التي حصلت، أو من خلال النجاحات التي تمت. ويمكن من خلال دراسة مستفيضة ومستقلة لهذه التجارب، بأنواعها الناجحة والفاشلة، تجنب كثير من الأخطاء والمخاطر. ولا يوجد أي مشروع، وخصوصاً في مثل حجم وتعقيد المشاريع التي نتحدث عنها، لا يتعرض إلى مشاكل سواءً داخلية، أو خارجية. ولكن ما يميز القيادات والمشاريع الناجحة، توفر الشجاعة والصراحة والشفافية، والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والمصيرية، ولعل من أهمها إيقاف أي مشروع وفي أي مرحلة، عند تغير الظروف التي لو كانت موجودة قبل بداية المشروع، لما بدأ المشروع. وإذا نظرنا إلى تجربة بريطانيا المتحدة، نجد أن تجربة رفع كفاءة التشغيل في القطاع الحكومي، والتي أخذت أكثر من عشر سنوات، خلال فترة الثمانينيات الميلادية، تعد من أفضل التجارب العالمية. فبريطانيا لم تبدأ بمشروع التخصيص إلا بعد رفع الكفاءة التشغيلية للقطاعات الحكومية وخلق فرص حقيقية للاستثمار بأنواعه، والذي يؤدي بدوره إلى خلق بيئة استثمارية جاذبة للاستثمار المحلي والدولي. وفي تجربة بريطانيا، نرى كيف تم اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة، لعل من أهمها تخفيض عدد موظفي بعض القطاعات المستهدفة بالتخصيص، وتحويلهم للقطاع الخاص، وتنفيذ سياسات وأنظمة وإجراءات ترفع من مستوى وأداء القطاعات الحكومية. كما يمكن الإطلاع على تجربة مدينة دبي، لدراسة تجربتها في تطوير وإنشاء مشاريع وصناعات وخدمات. ومهما كان رأينا في عدم مناسبة المقارنة نظراً لحجم المدينة مقارنة بالمملكة، إلا أن هناك دروسا قوية ومؤلمة يمكن التعلم منها، لعل من أهمها، ضرورة مراجعة خطط وبرامج التنمية والتطوير.
وليس من الصعب البناء، ولكن الأصعب والأكثر تحدياً، القدرة على المحافظة على المكتسبات، واتخاذ القرارات الصعبة، متى دعت الحاجة لها. وقد يكون من المناسب، وفي هذا التوقيت، قيام المجلس الاقتصادي الأعلى، مع مجلس الشورى، بدراسة عاجلة لموضوع المدن الاقتصادية والصناعية ومشاريع التخصيص، وتقديم التوصيات المناسبة لمقام خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله.
وللحديث بقية...