هل نجحت الصناعة المالية الإسلامية في تنظيم أعمالها الشرعية؟

في النظام الرأسمالي الذي تتبنى أشكاله المختلفة غالبية دول العالم تسعى الحكومات إلى إعطاء مساحات من الحرية في الأسواق. وتختلف تلك المساحات تبعاً لمدى توجه الحكومة في بلد ما إلى فرض قيود أو تشريعات على قطاعات الأعمال المختلفة. ولعل النموذج الأمريكي في حرية الأسواق يعتبر الأكثر تخفيفاً للقيود, ما أدى إلى انتقاده بشكل واسع إبان بدايات الأزمة المالية العالمية نهاية عام 2008. وكان من المنتقدين آنذاك قيادات دول أوروبية تتبنى النموذج الرأسمالي مثل فرنسا وألمانيا.

ما يهمنا هنا في عجالة، هو الآليات التي تتبع بشكل عام من أجل ضمان إبقاء التدخل الحكومي في أقل مستوى له وإبقاء حرية السوق والمؤسسات العاملة فيها في أعلى مستوى لها. ولهذا وجد في الدول الغربية الرأسمالية عدد من الآليات التي من شأنها المحافظة على توازن معادلة التدخل الحكومي مقابل حرية السوق. ومن أبرز تلك الآليات إيجاد الاتحادات أو الجمعيات المتخصصة في تنظيم أعمال قطاعات اقتصادية معينة, ومنها على سبيل المثال اتحادات البنوك من أجل تنظيم أعمال البنوك، واتحادات الشركات الكيماوية لتنظيم أعمال الشركات الكيماوية، واتحادات الشركات البيولوجية... وهكذا. وتعمل تلك الاتحادات على إيجاد مواثيق أو تشريعات غير رسمية يلتزم بها الأعضاء من أجل التصرف بمسؤولية ضمن قطاع أعمالهم بهدف إبقاء التدخل الحكومي بعيداً عنهم.

وعند عكس بعض من تلك المفاهيم على واقع الصناعة المالية الإسلامية، نجد أن عددا من الحكومات شرعت للتمويل الإسلامي ونظمت أعماله ولكن ضمن إطار قانوني أو فني مع نقص واضح لتنظيم الأعمال الشرعية في الصناعة. ففي كثير من التشريعات الصادرة عن السلطات الإشرافية التي تحتضن مؤسسات مالية إسلامية, نجد التركيز فقط على أن المؤسسة المالية الإسلامية يجب أن يكون لها هيئة رقابة شرعية تتكون من عدد معين من الأعضاء، وقد زادت بعض التشريعات على هذا، بأن وضعت مواصفات لأعضاء الهيئة الشرعية. لكن السواد الأعظم من تلك التشريعات غض الطرف عن آليات عمل هيئات الرقابة الشرعية وطرق إصدارها الفتوى وطرق تعاملها مع إدارات المؤسسات وإدارات الرقابة الشرعية التي تدقق على مدى التزام المؤسسات بالقرارات الصادرة عن الهيئات الشرعية. وقد نتج عن هذا القصور التشريعي من قبل السلطات الإشرافية كثير من نقاط الضعف التي تعانيها الأعمال الشرعية في الصناعة المالية الإسلامية. ومنها على سبيل المثال، تضارب الفتوى، والتعدد المبالغ فيه للمشايخ في عضويات الهيئات الشرعية لدرجة أن أحدهم تجاوز مجموع عضوياته 70 هيئة, ما أدى إلى افتراض تعارض واضح في المصالح بين بعض من أعضاء الهيئات الشرعية وإدارات المؤسسات المالية الإسلامية. كما أدى إلى جلوس عدد من الأفراد في مقاعد الهيئات الشرعية على أساس أنهم علماء وهم في أحسن حال لا يتجاوزون كونهم خبراء في عقود التمويل الإسلامي. وغيرها من نقاط الضعف التي لا يتسع المقام لذكرها.

لقد أدى الفراغ التشريعي للأعمال الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية إلى وجود مبادرات مشكورة من أجل وضع تنظيم الأعمال الشرعية في الصناعة, وهذه المبادرات تشابه إلى حد بعيد مبادرات الاتحادات والجمعيات المتخصصة في الدول الغربية. فظهر على سبيل المثال المجلس الشرعي التابع لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية, ووضع كثيرا من المعايير الشرعية لتنظيم أعمال الصناعة. وصدر أخيراً عن مجلس الخدمات المالية الإسلامية – ماليزيا دليل إرشادي لتنظيم أعمال الهيئات الشرعية، وأطلق المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية مبادرة الهيئة الشرعية العليا للتصنيف والرقابة. والقاسم المشترك الأكبر بين كل تلك المبادرات أنها جاءت لسد الفراغ التشريعي في أعمال الهيئات الشرعية. فإلى أي حد نجحت تلك المبادرات في التنظيم الذاتي للأعمال الشرعية؟

لا يمكن لأي أحد أن يقول إن تلك المبادرات لم تنجح قط، بل يجب النظر دائماً للنصف الممتلئ من الكأس لنرى أن معايير (الأيوفي) موثقة في مجلدين عربي وإنجليزي، والدليل الإرشادي لـ (أي إف إس بي) موجود، و معايير تصنيف (سي با في) مكتوبة. إلا أنه بالنظر إلى النصف الفارغ من الكأس، نرى أن كثيرا من المؤسسات المالية الإسلامية لا يلتزم بالكامل بتلك المعايير، وأن عديدا من المشايخ يفتي بعكسها، وأن جزءا ليس باليسير من الأعمال يسير خلافاً لما هو منصوص عليه في الأدلة والمعايير.

لقد أثبت عدد من الدراسات أن تجارب التنظيم أو التشريع الذاتي لقطاعات الأعمال ليست فاعلة من حيث الإلزام كالتشريعات التي تصدرها الحكومات, وذلك ببساطة لأن عدم الالتزام بالتشريعات الحكومية تترتب عليه عقوبات، بينما عدم الالتزام بالتشريعات الذاتية تترتب عليه المفارقة بين مخرجات تكون فيها المصلحة العليا تحقيق الكسب المادي.

باختصار شديد، الحل الأمثل لكل المشكلات الشرعية التي تعانيها الصناعة يلخص في الأثر التالي: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

فتخيل معي على سبيل المثال لو أن تشريعاً صدر عن بنك مركزي ما يقضي بإجازة التورق، عندها ستقل مسألة مناقشة التورق إلى حد بعيد. ولو أن بنكا مركزيا ما فرض عدم تكرار الشيخ الواحد على أكثر من 4 هيئات شرعية على سبيل المثال، ربما لم نجد إلا القلة القليلة تدافع عن حل التورق!!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي