من المختبرات إلى السوق
من بين المنافع التي بدأ يلمسها المجتمع إثر إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية زيادة الوعي بأهمية البحث العلمي، ما دفع كثيرا من مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحوث في المملكة لمراجعة برامجها وإعادة ترتيب أولوياتها للحاق بالركب. وربما خير شاهد على ذلك هو الحراك الكبير الذي بدأته جامعة الملك سعود في الآونة الأخيرة لبناء قاعدة بحثية عريضة تعكس احتياجات الأجيال القادمة. ومن حسن الحظ أن ذلك الاهتمام بالبحث العلمي يأتي في وقت تضافرت فيه عوامل تعد ضرورية للحفاظ على بقائه ونموه، من بين تلك العوامل الأعداد الكبيرة من حملة الشهادات العليا في العلوم والهندسة المنخرطين في برنامج الملك عبد الله للابتعاث، وفرة الموارد المالية، وسهولة التواصل وتبادل المعلومات بين مراكز الأبحاث العالمية نتيجة للتطور المذهل في عالم الاتصالات. تلك العوامل وغيرها تدعو للاطمئنان إلى الخطوات التي تخطوها المملكة في سبيل البحث العلمي، وإن كانت البداية مازالت متواضعة مقارنة بالمقاييس الدولية.
لكن نقلة البحث العلمي في المملكة، كأي فتح آخر جديد يحمل فرصا للكسب المادي والمعنوي، أغرت البعض لفبركة برامج «بحثية» تفتقد الجودة وتفتقر إلى الحد الأدنى من التجهيزات والباحثين ما شجع بدوره عددا من الانتهازيين للقفز على الحواجز وتخطي الصفوف للوقوف أمام الكاميرات وملء صفحات الجرايد بالحديث عن «إنجازات» أغلبها باهتة أو ثانوية بأسلوب مبالغ فيه، وتصنيفها في بعض الأحيان بأنها أعمال غير مسبوقة. بل بلغ الحال إلى حد قرأنا فيه ترشيحات بعضها لجائزة نوبل!
ومن الأمثلة التي يمكن سردها، وهي كثيرة، للدلالة على عدم جدية البعض في التعامل مع ملف البحث العلمي ما طالعتنا به الصحف قبل حوالي ثلاث سنوات عن منحة بمبلغ مليون ريال من رجل أعمال إلى إحدى الجامعات السعودية لإجراء أبحاث بهدف التوصل إلى لقاح ضد أحد الأمراض الخبيثة، وهو هدف أنفقت من أجله شركات العقاقير مليارات الدولارات ولم تبلغه بعد. وكنت قد عجبت يومها من ضآلة مبلغ المنحة مقارنة بحجم المهمة التي أخذتها تلك الجامعة على عاتقها، إلا أنه لم يكن أحد ليجرؤ على إفساد الجو الاحتفائي التي استقبلت به بعض الصحف تلك المنحة. وتمضي الأيام وإذا بي في شهر رمضان المبارك الذي مضى أسمع من الباحث الرئيس في ذلك البحث أن العمل قد توقف منذ فترة بعد أن صرف مبلغ المليون ولم تتيسر لهم مصادر تمويل أخرى، كما أن مغادرة فني المختبر بشكل نهائي من المملكة إلى بلده في شرق آسيا كانت بمثابة الضربة القاضية للعمل في المختبر.
في مقابل تلك الخطوة التي لم يكتب لها النجاح، هناك نماذج لخطوات جادة وواعدة كالتي عرضتها «الاقتصادية» في شهر صفر المنصرم ومن بينها «برنامج البحوث الابتكارية لقطاع الأعمال» الذي ترعاه مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، والمبادرة الوطنية لتحلية المياه بالطاقة الشمسية. إذ ستنقل «المدينة» نتائج أبحاثها المشتركة مع شركة IBM من المختبرات إلى السوق ببناء محطة لتحلية المياه المالحة لإنتاج 30 ألف متر مكعب يوميا باستخدام تقنية جديدة ذات مزايا اقتصادية جمة سيترتب عليها خفض تكلفة الماء إلى ثلث ما هي عليه الآن تقريبا. ذلك الهدف، إن تحقق بإذن الله، سيعيد رسم خريطة كثير من السياسات المائية والزراعية في المملكة، ولاسيما عندما تنتقل «المدينة» إلى أحجام كبيرة من المحطات مستفيدة من قاعدة «اقتصاديات الحجم «economies of scale.
ولاشك أن ما أعطى طابعا جديا لتلك المبادرة هو التمويل الذي قدمته وزارة المالية بمبلغ 129 مليون ريال، و عززه ما جاء على لسان وزيرها الدكتور إبراهيم العساف في حفل الإعلان عن المبادرة «إن الوزارة على استعداد لتقديم الدعم الكامل واللازم لتوجه المملكة الواعد في مجال استخدام الطاقة الشمسية بالتعاون مع الجهات الدولية المتخصصة». ذلك الموقف من قبل الوزارة ليس غريبا، فهي تمتلك سجلا جيدا في تبني الكثير من المبادرات الناجحة من خلال الصناديق والمؤسسات المالية المرتبطة بها.
هناك مبادرات أخرى جادة بدأت تتشكل في رحم مختبرات الجامعات السعودية إيذانا بإطلالتها على السوق، إلا أن تلك الخطوة في حاجة إلى مصادر تمويل قد لا تكون متاحة لدينا في الوقت الراهن، بحسبان أن البحث العلمي في المملكة مازال في بداية الطريق ولم تكتمل بعد مؤسساته. ذلك الغياب «المؤقت» لمصادر التمويل قد يمثل فرصة أمام صندوق الاستثمارات العامة أو ذراعه الاستثمارية «شركة سنابل» لتأسيس برنامج أو صندوق خاص لسد ذلك الفراغ بتبني الأفكار الواعدة على غرار ما يدعى في الغرب «صندوق المبادرات المبتكرة capital fund Venture».