إعادة هيكلة عمل القطاعات الحكومية .. رؤية استراتيجية

يمر الجهاز الإداري الحكومي مثله مثل الشركات ومنظمات الأعمال بفترات نمو، وانكماش، وتوسع في الفرص، وزيادة في المنافسة، وغيرها من العوامل التي تغير وتؤثر سلباً أو إيجاباً في طريقة ومنهجية العمل والإنتاجية. والمملكة ليست استثناء. وعلى مر أكثر من خمسة عقود، عاشت المملكة وواجهت فرصا وتحديات محلية، وإقليمية، وعالمية في مجال الاقتصاد والأعمال، لم يتم التعامل معها بالشكل المطلوب، بسبب طبيعة البيروقراطية وجمود التنظيم الحكومي، وعدم قدرته على التكيف والاستجابة للتحديات والتغيرات.
وفي إطار التطوير التنظيمي، يتعين إعادة النظر في الهيكلة وطريقة العمل، بين فترة وأخرى، عادة كل خمس إلى عشر سنوات. وعادة يتم طرح أسئلة عملية لتقييم التنظيم وطريقة العمل القائمة، مثل ماذا نريد، ماذا نعمل، لماذا يتم العمل بهذه الطريقة، من يقوم بالعمل، ومتى يتم العمل، وما الذي تحقق؟ كما يتعين – وفقاً للمستجدات - مراجعة وتعديل الخطة الاستراتيجية للعمل في أجهزة القطاع الحكومي، في حالة وجودها، أو تطوير خطة استراتيجية شاملة. وقد يكون من المناسب، بل من الواجب الوطني، أن نعيد النظر في التنظيم والهيكلة الحكومية وآلية عمل بعض القطاعات الحكومية. وهذه المراجعة، لا تفيد فقط في رفع الكفاءة التشغيلية، وتقليل التكاليف (تخفيض بعشرات المليارات سنوياً)، بل تضمن تحسين الأداء والخدمات المقدمة للمواطن.
ومن أهم ظواهر وجود مشكلات تنظيمية وضعف وخلل في الأداء في القطاع الحكومي، غياب العمل المؤسساتي الذي هو ضد الفردية. فعمل القطاعات الحكومية يعتمد على شخصية وتوجه المسؤول الأول في القطاع. فعند تولي وزير ما حقيبة وزارية، فإن أول ما يقوم به الوزير الجديد، تبني توجهات وسياسات جديدة، مع جلب فريق عمل يعينه الوزير الجديد. بل إن أي وزير جديد، دائما ما يطالب بعدم مساءلته عن فترة الوزير السابق، وأنه فقط مسؤول عن الفترة المقبلة، مع طلبه الانتظار لمدة أربع سنوات للحصول على نتائج. وهكذا، تتكرر القصة مع كل مسؤول جديد، وتمر أربع سنوات أخرى، و40 سنة أخرى، ولا نعلم من نسأل عن عدم تحقيق النتائج. ومع غياب وجود خطة استراتيجية، وبرنامج عمل واضح لأي وزير معين، مع ضعف في المساءلة والمحاسبة، أصبح العمل في القطاعات الحكومية يعتمد على أهواء ورغبات المسؤول الأول عن المؤسسة. فثقافة المؤسسة أو العمل المؤسساتي يضمن جودة الأداء ووضوح المسؤولية واستمرار تقديم الخدمة أو الوظيفة بعيداً عن التذبذب ولا يتأثر العمل وجودته بوجود المسؤول الأول أو غيابه، لأن سلوك العمل المؤسساتي يرسي تقاليد وأعرافا وثقافة وعراقة في العمل من الصعب أن تتأثر بوجود أو غياب فرد. وهذا هو أحد المعايير المهمة لقياس درجة «المؤسساتية»، بمعنى هل نحن أمام مؤسسة وعمل مؤسسي أم أمام فردية وارتجال.
ومن الظواهر الأخرى لوجود مشكلات تنظيمية وقصور وخلل في الأداء، غياب آلية وتنظيم ومرجعية واضحة لتكامل العمل بين القطاعات الحكومية. فكل وزارة، أو مؤسسة، أو هيئة حكومية تعمل بشكل منفرد، سواءً في التخطيط، أو التنفيذ، أو تقديم الخدمات. فلو أخذنا مشاريع تنفيذ شبكات الاتصالات، الكهرباء، المياه، الصرف الصحي، تصريف السيول وغيرها، فإننا نلاحظ أن كل جهة حكومية، أو حتى شركات الاتصالات، مسؤولة عن خدمة معينة تقوم بتنفيذ مشاريعها في منطقة معينة أو شارع معين دون تكامل ومشاركة مع الجهات الأخرى، على الرغم من أن الجميع يتعامل مع المنطقة والشارع نفسيهما. وهذا ينطبق على أعمال الصيانة. وهكذا نرى بشكل شبه يومي، تعاقب الجهات الحكومية والشركات المختلفة على الحفر والدفن في الشوارع، مما يكبد الدولة خسائر مالية كبيرة.
وإذا نظرنا إلى وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل، فإننا نلاحظ وجود ازدواجية وتكرار في العمل بينهما. فكلتا الوزارتين تتعامل مع العنصر البشري، طالب العمل، الموظف، مواطن أو مقيم، كما تتعامل مع سوق عمل واحد، وليس اثنين. فلا يعني وجود وزارتين منفصلتين، واحدة للخدمة المدنية، وأخرى للعمل، صحة هذا التنظيم. ولوجود وزارتين منفصلتين للتعامل مع الموظف وسوق العمل، أصبح الحصول على بيانات دقيقة، شاملة، وقتية عن طالبي العمل، الموظفين، العاملين، المقيمين وغيرها من البيانات الضرورية، التي يفترض أن يتم نشرها بشكل يومي، مثلها مثل البيانات المالية الوطنية الأخرى كالتضخم، من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلاً. مع التأكيد على أن أي قرارات يتم اتخاذها، بناءً على بيانات ناقصة وغير دقيقة، لمعالجة البطالة هي خاطئة وقد تؤدي إلى زيادة مشكلة وتكلفة البطالة. ولعل دمج الوزارتين في واحدة، سيساعد أيضا في تحسين إدارة واستثمار مخصصات التقاعد العام والخاص، وأيضاً توحيد الجهود. كما أن دمج الوزارتين سيتيح الفرصة لمراجعة وتقييم مدى تحقيق صندوق الموارد البشرية للأهداف المرسومة له، وخصوصاً مدى مساهمة الصندوق في تخفيض نسبة البطالة.
وفيما يتعلق بقطاع الاتصالات، فهناك وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات وهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، ويلاحظ، هنا، عدم وجود دور واضح لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات. فعند إلغاء وزارة البرق والبريد والهاتف، تم إنشاء مؤسسة البريد السعودي للقيام بمهام البريد، وتم تخصيص قطاع الاتصالات، مع إنشاء هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات كجهة تنظيمية تشريعية. أما ما يقال عن عدم وجود تعارض بين مهام وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات ومهام هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات وأن مهام الأولى تشريعية بينما الهيئة مهامها تنظيمية، فهذا يؤكد فعلياً، وجود ازدواجية وتداخل بين مهام الجهتين، وقد يكون من الأجدى التركيز على دور الهيئة، كجهة تشريعية وتنظيمية، مع إعادة النظر في مدى مناسبة الإبقاء على الوزارة.
وإذا نظرنا لوزارة الاقتصاد والتخطيط، فدورها في الاقتصاد الوطني غير واضح، أو غير مفعل، على الرغم من مضي أكثر من سبع سنوات على نقل مهام نشاط الاقتصاد من وزارة المالية والاقتصاد الوطني إليها. أما بالنسبة للتخطيط، فالوزارة تقوم كل خمس سنوات بتطوير خطة خمسية، وصلت إلى النسخة التاسعة حالياً، أو أكثر من 40 سنة من الخطط التنموية. وهنا نسأل ماذا تعني هذه الخطط، ولماذا يتم إعدادها، وهل تنعكس وتقود المشاريع التنموية التي يتم اعتمادها في الميزانيات السنوية. ومن خلال طريقة تحديد واعتماد المشاريع في الوضع الحالي، يبدو أنه لا يوجد أي دور للخطط التنموية أو لوزارة الاقتصاد والتخطيط. وفي ظل الوضع الحالي، وإذا سلمنا جدلاً بصحة منهجية إعداد واعتماد المشاريع، فهل هناك حاجة لوجود وزارة الاقتصاد والتخطيط؟ وينطبق الكلام ذاته على مصلحة الإحصاءات العامة، وخصوصاً في تنفيذ مشروع التعداد السكاني، دون الاستفادة من مصدر معلومات استراتيجي وحيوي، والمتمثل في مركز المعلومات الوطني.
وبالنسبة لوزارة المياه والكهرباء، فالمشكلة أكثر تعقيداً. فإنشاء هيئة الكهرباء والإنتاج المزدوج، وضلوعها في وضع التشريعات والتنظيمات الخاصة بإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية والمياه، يتطلب إعادة النظر في مدى مناسبة بقاء وزارة المياه والكهرباء. وقد يكون من المناسب في هذا السياق قيام الهيئة بالتعاون مع المجلس الاقتصادي الأعلى بمراجعة وتقييم مشروع تخصيص خدمات المياه والصرف الصحي، وتحديد مدى مناسبة نموذج التخصيص المستخدم، مع الأخذ في الحسبان تجربة تخصيص الاتصالات والدروس المستفادة منها.
وفيما يتعلق بالخدمات الصحية، فهناك عدة جهات مختلفة، تقوم بتنظيم وتقديم الخدمات الصحية في المملكة، دون وجود أي تنسيق عملي ومؤسساتي بينها. ويمكن كحل عملي، تفعيل ورفع مستوى تمثيل المجلس الأعلى للصحة، وتحويله إلى هيئة للخدمات الصحية، تكون تشريعية، وإشرافية على جميع مزودي الخدمات الصحية. مع التأكيد على أنه في حالة تفعيل دور الهيئة بالشكل المطلوب، فإنه يجب إعادة النظر في وضع ومدى مناسبة الإبقاء على وزارة الصحة. وبالنسبة لوزارة التعليم العالي ووزارة التربية والتعليم، فمن غير الواضح أهداف وأدوار المجلس الأعلى للتعليم (العام والعالي). فإذا كان الهدف من إنشائها، كما هو معمول به في دول متقدمة، إيجاد هيئة تشريعية وإشرافية، وهي المهام الأساسية للوزارتين، فإن المحصلة المنطقية، قد تكون إعادة النظر في مدى مناسبة بقاء الوزارتين. وبالنسبة لتنظيم وإدارة قطاع الأعمال من حيث إصدار السجلات التجارية وإنشاء الشركات والمؤسسات، فهناك عدة جهات تتولى هذه المواضيع بشكل متداخل وهي: وزارة التجارة، الهيئة العامة للاستثمار, ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ويستحسن إعادة النظرة في طريقة إدارة وتنظيم القطاع الخاص.
وفي ظل المطالب الملحة والتوجيهات الدائمة والرغبة الصادقة لحكومة خادم الحرمين الشريفين ــ حفظه الله، في ضرورة التعامل والتكيف مع الأحداث والتغيرات والفرص والتحديات، ولأن أعمال التطوير تتصف بالاستمرارية، فقد يكون من الأجدى مراجعة وتقييم الوضع الراهن لهيكلة وعمل القطاعات الحكومية بشكل مستمر، مع تقديم حلول عملية وسريعة لتطوير التنظيم والعمل لمقابلة الاحتياجات والتغيرات والفرص والتحديات. ولعل من أهم المعطيات التي تدعم تبني مثل هذا التوجه، هو أننا نتعامل مع متلق واحد «عميل واحد»، سواءً كان للعمل، أو للتعليم، أو للصحة... إلخ. ونتعامل أيضاً مع مؤسسة واحدة هي المستشفى، أو المدرسة، أو الحي، أو الشارع ... إلخ. فطالما أن المستفيد «واحد»، فكذلك مصدر السياسات والمخرجات يستحسن، بل ويفترض، أن يكون «موحدا» حتى نقضي على الهدر بجميع صوره، وكذلك نقضي على التعارض أو التناقض بين المؤسسات والذي بدوره يربك الخطط ويميع المسؤولية.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي