نهاية عصر الهيمنة الأمريكية

كان اليوم الأول في منتدى جدة الاقتصادي لهذا العام 2010م بمثابة قاعة محاكمة وإدانة قاسية لفلسفة النظام المصرفي والمالي الأمريكي، وما تمخض عنها من عربدة مالية وخزي مصرفي مارسته المؤسسات الأمريكية تحت ستار حرية العمل المصرفي والمالي، فأودت بالاقتصاد العالمي لأسوأ فترة كساد في تاريخ البشرية! كانت جريمة اقتصادية وأخلاقية بكل الأعراف والمقاييس! ولو تسبب بلد ما في معشار ما فعلته مؤسسات أمريكا، لحجر على اقتصاده وتم غزوه ووضع تحت الوصاية بدعوى تسببه في زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي، وتشريده ملايين الموظفين ممن فقدوا وظائفهم، وتعطيله عجلة الإنتاج والتبادل الدولي! لكنه منطق القوة! الذي يرى جرائم الكبار أخطاء يمكن أن تعالج، وهفوات الصغار جرائم نكراء تعقد لها محكمة العدل الدولية، ويلتئم لإدانتها مجلس الأمن، وتجيش لها الجيوش!
قبل حفل الافتتاح التقيت ديفيد روبنشتاين مدير مجموعة كارلايل الاستثمارية العملاقة ومرافقيه، في وجود عضو البرلمان الكندي لي ريتشاردسون ومرافقيه في منزل أخي فهد المقيرن، وقلت له أرجو أن تتأكد أنت وبقية حضرات الضيوف أننا ننظر للحضارة الأمريكية بمثابة حضارة تمثل البشرية جمعاء، إنها لا تخص الأمريكان أو الغربيين وحدهم لأنها نتاج تضافر عقول جنسيات متعددة، فهي تمثل التطور الطبيعي لمسيرة البشرية. ومع أنها حضارة اكتسبت نكهة أنجلو سكسونية، إلا أنها نتاج عالمي بشكل أو بآخر، ولو لم تكن هذه الحضارة في الأراضي الأمريكية لقامت في غيرها. ونحن نعترف بمكانة وأهمية هذه الحضارة، بيد أن احترامها لها يكون بقدر عدالتها وإنسانيتها. وما جرى منها في عهد بوش – سياسيا واقتصاديا - أساء لها بصورة كبيرة جدا، فأين ذهب حكماء الأمة الأمريكية وعقلاؤها؟ وإني أتعجب أشد العجب من أن قوى المال وذوي النفوذ من أصحاب المصالح في أمريكا من الذين أثروا من هذه الأزمة ما زالوا – بعد كل ما جرى – يقاومون ويعارضون جهود الرئيس أوباما ومستشاره فولكر بوضع ضوابط مهمة على عمل المصارف لإصلاح النظام المصرفي الأمريكي بدعوى المحافظة على الحريات،! مع أن هذه الضوابط تطيل بقاءهم وتحمي وجودهم وتحافظ على مكتسبات الأمة الأمريكية في عصر اشتدت فيه المنافسات الدولية. لكن يبدو أن الرئيس أوباما ليس مهيبا بما فيه الكفاية في كواليس مراكز القوى الأمريكية، كهيبة بعض الرؤساء السابقين، وفقا لاعتراف روبنشتاين في معرض إجابته على سؤال طرحه الأخ محمد الخريجي الذي سأله عن تقييمه للرؤساء الأمريكان سواء من الذين عمل معهم كالرئيس كارتر أو من اللاحقين الذين تعامل معهم بحكم إدارته مؤسسة كارلايل.
قلت لروبنشتاين تعليقا على دعوى عدم المساس بحريات عمل المصارف، إنني لا أرى فرقا بين هذا الموقف من قوى المال المعارض لجهود الرئيس أوباما للإصلاح، وبين أن نعطي شخصا أو عدة أشخاص سيوفا ونطلقهم على أرصفة شارع وول ستريت ونمنحهم حرية ضرب من يشاؤون بسيوفهم بحجة عدم إعاقة حركاتهم في شارع يكتظ بالمارة والراجلين! نحن لسنا ضد الحرية بمعانيها السامية، لكننا بتنا نعلم جميعا أن أية حرية في حاجة لضوابط وإلا تحولت إلى فوضى. والضوابط مهمة جدا في حالة المصارف نظرا لما تتمتع به هذه المؤسسات من قدرات واسعة في التأثير على مجمل النشاط الاقتصادي. وقد شاهدنا الآثار المدمرة لمنحها قروضا عشوائية وللمبالغة في عمليات الرفع الائتماني طمعا في مزيد من المكاسب قصيرة الأجل. لقد غدت هذه الضوابط أكثر أهمية من أي يوم مضى نظرا للترابط الكبير الذي يجمع المصارف في مختلف دول العالم في عصر ثورة الاتصالات.
في اليوم الأول من المنتدى، اعترف نيل ولين نائب وزير الخزانة، بأنه على الرغم من الفوائد المشتركة التي يحققها النظام المالي العالمي، من حيث قدرته على تعبئة وتسهيل تدفق رؤوس الأموال لكل المنخرطين فيه كبيرهم وصغيرهم، إلا أن زيادة شدة هذا الترابط المالي تجلب أخطاراً مشتركة - وأحيانا مدمرة - إن لم نحسن وضع ضوابط رقابية أكثر فاعلية على هذا النظام الدولي. والواقع أن هذا التحذير يجب أن يوجه للنظام وللمؤسسات الأمريكية والبريطانية في الدرجة الأولي قبل غيرها نظرا للحريات الواسعة التي تتمتع بها ولدورها الخطير على مجمل النظام العالمي بالنظر لضخامة حجم المعاملات المالية التي تجرى من خلالها. فمن يتحمل الخسائر والتكاليف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الباهظة والقاسية التي عمت العالم وترتبت على هذا السلوك المنحرف لحفنة من المؤسسات الأمريكية والمنتفعين من ورائها؟
الحقيقة أنه لم يسبق لي أن رأيت وجوه الأمريكان في محفل دولي وقد علاها الشعور بالحرج وبالذنب كما رأيتها في أيام المنتدى. وفي المقابل كان هناك شعور ظاهر بالمرارة والحنق الشديد من الجميع بمن فيهم الفرنسيون والألمان والكنديون تجاه ما جرى من المؤسسات الأمريكية. وقد حرصت فرنسا على أن تؤكد حضورها وتسمع العالم رأيها من خلال منتدى جدة – كما أسمعته من قبل في منتدى دافوس - من خلال الحضور المفاجئ غير المبرمج لأحد وزراء خارجيتها السابقين الذي طلب المداخلة، وأكد الحاجة لإعادة هيكلة وتنظيم المؤسسات التي تحكم التفاعل الاقتصادي والمالي الدولي، ولإقامة نظام رقابة قوي وحوكمة دولية فاعلة تضمن عدم تكرار ما حدث.
أما الدرس البليغ الذي تعلمناه من هذه الأزمة، فقد جاء على لسان جون ويلز رئيس المعهد الدولي للتنمية الإدارية الذي ألقى كلمة مرتجلة بليغة وصادقة، حيث لخص سبب الأزمة في أنها أزمة انهيار أخلاقي، ينطبق عليها المثل العربي القائل: إذا كان رب البيت بالدف ضاربا، فشيمة أهل البيت الرقص!
ماذا عن المستقبل وعن وضع الدولار؟ أترك الحديث عن ذلك للأسبوع المقبل ـ إن شاء الرحمن. ولا بد أخيرا من كلمة شكر وتقدير للأستاذ عبد العزيز صقر ولمركز الخليج للأبحاث ولغرفة جدة ولجميع العاملين في المنتدى على جهودهم المضنية، أما الملاحظات فيمكن أن نتعلم منها. ولا شك أن منتدى جدة أخذ يكتسب قيمة وأهمية وحضورا عالميا عاما بعد آخر، لكنه في حاجة للتطوير المستمر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي