خطة خمسية لتطوير الأفراد والمؤسسات
نشأنا في بيئة لا تعطي التخطيط أي حظ أو أهمية تذكر، فالطفل منا لم يتعود ولم يعوده أبواه الادخار والتخطيط للمستقبل القريب فضلا عن البعيد .. ترعرعنا في بيئة مجتمع ومحيط يقوم على قرارات المفاجآت السريعة وغير المدروسة كثيرا من الأحيان سواء في حياتنا الاقتصادية أو الاجتماعية أو العائلية .. ويتجاهل أو يهمش كثير من الكبار والصغار والأفراد والشركات أهمية الاستشارات في تصويب القرارات وتطوير القدرات وتعظيم المنافع والأرباح .. والأمثلة الموروثة والمشجعة على عدم التخطيط كثيرة منها ''اصرف ما في الجيب يجيك ما في الغيب''، ''كل طعام اليوم ورزق بكره عند ربه''، و''عش يومك'' .. فيعيش اليوم معظم الأفراد في مجتمعنا على مبدأ ''التواكل'' وليس '' التوكل''، إذ يفسر جمهور الناس العمل بكثير من أسباب التخطيط والاحتياط على أنها ليست مطلوبة لأهل الإيمان بالقدر والتوكل على الله .. لكن العلماء يؤكدون أن الحقيقة الشرعية هي بخلاف ذلك، فإن من أهم شروط التوكل على الله والإيمان بالقدر أن تسعى وتكابد وتحتاط وتأخذ بأسباب التخطيط والتنظيم وكل الأمور المادية ثم يكون التوكل على الله صحيحا مقبولا معقولا.
لا تزال المؤسسات والشركات حتى الجهات الحكومية ومعها الأفراد والأسر يرون أن وسائل التخطيط والحصول عليها عبر الخدمات الاستشارية كمالية جدا وليست بذات أهمية تذكر، لذا فإن أبخس الأسعار والمبالغ تستكثر أن تعطى للمؤسسات الاستشارية والمستشارين الاقتصاديين والإداريين والاجتماعيين وغيرهم .. وعلى حد قول كثير من خبراء الأعمال فإن الأعمال الاستشارية ''ما تأكل عيش'', وربما لا يرى كثير من أصحاب الأموال والأعمال للدراسات والاستشارات قيمة تتعدى تكلفة الأوراق التي يتم تصويرها عليها، وذلك لأن الاستشارات سلعة خدمية غير ملموسة ولا محسوسة ماديا بخلاف الأصول المادية كالأراضي والأجهزة والآلات والسيارات والمباني والسلع المادية الثابتة والمنقولة الأخرى التي يتم جلبها إلى السوق أو يراها أصحاب الأعمال بأعينهم ويلمسونها بأيديهم.
ومع ذلك فالخدمات الاستشارية, ومن أبرزها التخطيط الاستراتيجي للأفراد والمؤسسات, تعد سلعا مهمة جدا تتفاوت جودتها كما تتفاوت السلع المادية، لكن لأنها استراتيجية فمنفعتها (عوائدها) طويلة الأجل فهي لا تقيم ولا تقوم بأثمان (عوائد) قصيرة الأجل كالسلع المادية، ومن هنا فلا يرى ثمنها (عوائدها) إلا القليل من المؤسسات المتطورة والأفراد المثقفين في بيئتنا النامية التي لا تكاد تعيش إلا لأيامها الحالية ولا تكاد تنظر إلا إلى العوائد قصيرة الأجل ولا تكاد تعكس إلا الأمور المادية المحسومة الملموسة المأكولة أو الملبوسة أو المسكونة أو المنظورة في السلع الاستثمارية الزراعية والصناعية والنقل وغيرها.
بناء وتطوير الخطط العائلية لكل فرد من مواطن أو مقيم مهم جدا لتحقيق أعظم المصالح والمنافع الفردية والعائلية ومن ثم الاقتصادية والاجتماعية لكل الوطن ولجميع الشعب. وهذه الخطط ستسهم في التوازن الفردي النفسي والعائلي والاقتصادي والاجتماعي عبر مراحل عمر الفرد والعائلة والأسرة، وستعمل على تكامل الرؤية الحالية مع رؤى التوقعات المستقبلية والمتطلبات في مختلف المراحل الحياتية من عدة جوانب مختلفة. التخطيط ضروري وحيوي لعدد أفراد العائلة وحجم ونوع السكن المطلوب ومستويات المعيشة والدخل والمدخرات المتوقعة والمخططة لتحقيق ذلك، ويلزم لذلك تحديد طبيعة العمل والوظيفة أو المهنة والتخصص الذي سيمارسه الفرد في حياته، وكذلك تحديد حجم الجهود والأوقات للتطوير والتدريب لتحقيق مهارات مناسبة للدخول المتوقعة والمدخرات المخططة لموازاة المتطلبات والرغبات المستقبلية للفرد والعائلة.
هذه الخطط الحياتية والعملية والعائلية والمالية والاقتصادية يتدنى وعي الأفراد بأهميتها وأولويتها ومنافعها فضلا عن توافر المؤسسات والشركات الخاصة التي تقدم المعلومات والبيانات والأساليب والطرق لإعدادها وترتيبها، ولهذا يلزم أن تتجه وزارات التخطيط والاقتصاد والإعلام والشؤون الاجتماعية وغيرها من الجهات الحكومية والعامة المهتمة بالشأن الاجتماعي والاقتصادي والإعلامي إلى المساعدة الكبيرة على التوعية بها والمساهمة في توفير المشورات المجانية وشبه المجانية .. ولا بد أن تستمر هذه الجهات في تقديم الدعم والتحفيز لهذا القطاع حتى يتم تطور المؤسسات الاستشارية الخاصة من حيث توفر الكفاءات والمهارات في هذا المجال، ومن حيث نمو الوعي الجماهيري بأولوية التخطيط وبأساليبه، وبالتالي يتجه بعض المؤسسات الخاصة للاضطلاع بتقديمه بأسعار سوقية منافسة وحرة.
الخلاصة أن التوعية بأولوية الخدمات الاستشارية وأهمية تطوير القطاع الاستشاري سيخدم الفرد والأمة والوطن, فالأفراد والمؤسسات ليحققوا نجاحا استراتيجيا في مختلف الجوانب لا بد لهم أن يضعوا خططا مستقبلية سنوية وخمسية وخمسينية يتم تطويرها وتحديثها وتعديلها في كل مرحلة لتحقق آمالهم وطموحاتهم ولوضع مسيرة حياة فردية وعائلية ومؤسسية متوازنة تقود إلى توازن اقتصادي واجتماعي للوطن والأمة.