أنظمة التوظيف بين مثالية التصور وعشوائية التطبيق
أنظمة التوظيف، كل أنواع التوظيف في القطاعين العام والخاص في السعودية أصبحت غير متجانسة والفروق بينها غير منطقية وتتسم في بعض جوانب تطبيقها بالعشوائية، لذا فهي تحتاج من وجهة نظري إلى إعادة دراسة وتصحيح وتطوير تفادياً للآثار السلبية المحتملة مستقبلاً نتيجة هذا الخلل وعدم التجانس على التنمية الوطنية بشكل عام، وسأتناول هذا الموضوع من جهتين باختصار شديد على أمل أن يعاد طرح كل جزء بشكل أكثر تركيزاً ومن زوايا مختلفة بواسطة الإخوة الزملاء الكتاب المختصين في هذه الصحيفة الغراء.
أولاً: بالنسبة للوظائف الحكومية تظهر المشكلة بوضوح من خلال مراقبة حالات التسرب الكبيرة وكثرة التنقلات بين قطاعات العمل بحثاً في معظم الأحيان عن الزيادة في الراتب وأحياناً أخرى عن المرونة في الإجراءات والمزايا المصاحبة للوظيفة، وأحياناً هروباً من حالة الإحباط التي يتعرض لها الموظف نتيجة إحساسه بالتفرقة في المزايا أو تطبيق اللوائح دون وجود معايير وأسباب مقنعة لهذا الاختلاف، خذ مثلاً الموظفين الحاصلين على بكالوريوس وبتقدير جيد جداً والذين يعملون في مجال العمل الإداري التابع لوزارة التربية والتعليم أو التعليم العالي يحصلون على مرتبات أقل بــ 40 في المائة على الأقل من أقرانهم التابعين للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وهؤلاء بدورهم يحصلون على مزايا أقل مما يحصل عليه موظفو الهيئة الملكية، بل حتى موظفو الهيئات المختلفة توجد بينهم فروقات كبيرة معظمها غير مبرر وغير منطقي، رغم تشابه فترات الدوام في معظمها وتساوي الجهود والأهمية بينها، ولذا ولسنوات عديدة نسمع ونقراً كثيرا من الأخبار والإشاعات حول تغيير كادر تلك الجهة أو زيادة رواتب جهة أخرى، وهكذا .. نسمع ونقرأ دوماً.. ودوماً عن المطالبات والجهود الفردية للوزير الفلاني أو المحافظ الفلاني بتعديل كادر موظفيه وإصلاح أوضاعهم إيقافاً لنزيف التسرب الوظيفي وهروب ذوي الكفاءات، وهذا في اعتقادي جيد ولكن يجب أن يكون لكل قطاعات الدولة بشكل شامل وفقاً لمعايير وظيفية موحدة تراعي أهمية الوظيفة ومسؤولياتها وصعوباتها وتراعي جوانب التميز من عدمه في كل القطاعات على حد سواء، بحيث يتقاضى أصحاب نفس المؤهل والمرتبة والدرجة والمركز الوظيفي - في كل الجهات الحكومية من الوزارات والهيئات والمؤسسات - نفس المقدار من الراتب والبدلات الأساسية مع الاختلاف فقط في مقدار المكافآت والحوافز التشجيعية وفقاً لدرجة التميز والأداء والذي يتم بدوره وفقاً لآلية موحدة وواضحة للجميع، فهل ترون معي أهمية أن يناقش مثل هذا الموضوع في مجلس الشورى؟
ثانياً: بالنسبة للتوظيف في القطاع الخاص، أرى أن كثيرا من القرارات التي أصدرتها وزارة العمل في السنوات الأخيرة والمتعلقة بسعودة بعض قطاعات الأعمال الصغيرة مثل محال الخضار والاتصالات وغيرها لم تنجح بالشكل المتوقع لها، ودليل ذلك وجود العمالة الوافدة بكثرة في هذه الأعمال والتي بات معظمها غير مجد اقتصادياً لملاكها، وفي اعتقادي أن الوزارة - مع حسن ظني بمسؤوليها وتقديري لكثير من جهودهم - لن تنجح أبداً ما ظلت تنظر وتبني قراراتها في مجال السعودة على تصورات مثالية غير كاملة فالحكم على الشيء فرع من تصوره، ولا يكتمل التصور من خلال دراسة بعض الزوايا وإغفال أو تجاهل زوايا أخرى مهمة بدعوى عدم دخولها في صلاحيتها، فلا بد من إيجاد تنسيق واقعي وقابل للتطبيق مع كل القطاعات ذات العلاقة، خذ مثلاً ما كانت تردده وتركز عليه وزارة العمل في السنوات الماضية من أهمية سعودة قطاعات العمل الصغيرة والمتوسطة والذي على أثره بدأت معاهد التدريب التقني تخرج في تخصصات الحلاقة والحياكة وغيرها، دون أن يكون لذلك الأثر المنشود ودون توجه معظم خريجيها للعمل فيما تخصصوا فيه والسبب ببساطة أن ظروف تلك الوظائف ومواصفاتها لا تناسب المواطن السعودي ولا تلبي الحد الأدنى من احتياجاته فضلاً عن احتياجات أسرته، لذا فمن الظلم عند إعراضهم عنها القول إن البطالة في أوساط الشباب السعودي اختيارية وليست قسرية، هذا مع العلم أن النسبة الأكبر من العاطلين هم من خريجي الجامعات والكليات التقنية، وبالعودة والنظر إلى آليات إنشاء المتاجر والمؤسسات الصغيرة نجد أنها تأسست على نفس الأسس الاقتصادية التي اعتاد السعودي عليها منذ عقود وهي رواتب لا تتجاوز الألف ريال لموظف يعمل من السابعة صباحاً إلى الثانية عشرة ليلاً ودون تأمين أو أي حقوق خلاف هذا الراتب، ومع هذا كله إن ربحت تلك المتاجر فأرباحها الصافية بين ألفين وعشرة آلاف ريال، فكيف نتوقع من تلك المتاجر في ظل هذه الحال أن تستقطب السعوديين.
ختاماً: أرى أنه من الأجدر أن تكون أولوية برامج وخطط السعودة بدعم «تدريب وتوظيف» الشباب السعودي في القطاعات الأعلى دخلاً ثم الأقل فالأقل كما تفعل الدول المتقدمة التي تركز في توظيف شعوبها على الوظائف الاستراتيجية وذات الدخل الجيد وتعج بالعمالة الوافدة في القطاعات الأدنى، مع أهمية تحديد حد أدنى من الأجور وضوابط لها ولساعات العمل، كما أن المتاجر الصغيرة بوضعها الحالي والتي تنتشر بشكل عشوائي في كل الشوارع تحتاج إلى التقنين والحد من أعدادها وتوزيعها حسب نشاطها ضمن مراكز محددة بما يساعد على رفع سقف دخولها وجعلها قادرة على رفع الرواتب وتحقيق الربحية معاً، وأخيراً أنظمة التوظيف تحتاج إلى إيجاد معايير مهنية موحدة على مستوى كل الوظائف في القطاعين العام والخاص تساوي أجور وحوافز من يحملون نفس المؤهلات ويعملون بنفس القدر من الجهد والكفاءة حتى وإن اختلفت الجهات التي يعملون فيها.
ودمتم بخير وسعادة.