الرهن العقاري غالي التكلفة من دون ضمان الحكومة

لا تخفى أهمية امتلاك المنزل وآثاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الوطن، وشاهد ذلك اهتمام الدول المتطورة به، وكذا فعل المؤسس الأول ابن سعود ـ رحمه الله ـ في توطين البادية، وقد كتبت كثيرا في ذلك. وكثير منا - وأنا منهم - لا نعلم عن تفاصيل نظام الرهن العقاري السعودي شيئا. ولكنه من المتوقع أنه سيغطي نواحي كثيرة تُسهل الحلم السعودي - امتلاك منزل لائق - بأقل التكاليف الممكنة. وامتلاك منزل لائق أمر بعيد المنال على كثير من السعوديين مع ارتفاع التكلفة وشح التمويل وضيق أفق النظام.
ولا يتخيل عاقل أن الحكومة تستطيع تحمل جميع تكاليف توفير الإسكان للمجتمع، ولكن الحكومة يمكنها أن تدفع بكرة الثلج فلا يبقى مواطن إلا وقد امتلك منزلا في الغالب. والعاقل لا تعوقه أخطاء الماضي وتصوراته عن بناء المستقبل، فما مضى قد مضى، وجعل الماضي عقبة لا تُتجاوز لهو من نقصان العقل، فاليوم الذي نعيشه هذه هي معطياته فما هي الحلول المتوافرة؟ وعليه فإن محور حديثنا هنا يدور حول دور الدولة في الرهن العقاري من جهة دعم تكلفة التمويل من أجل تخفيضها على المواطن.
تكلفة التمويل هي قيمة الفائدة على المتبقي في ذمة المتمول من رأسمال التمويل الممنوح له. ( وهذا في جميع أنواع التمويلات مهما اختلفت أسماؤها ودعاياتها وألاعيبها الشرعية أو التسويقية). ومعدل الفائدة على تمويلات المنازل السكنية يتكون من أمرين أساسيين هما أولا: معدل الفائدة العام (وأقرب ما يقاس به هو سندات الخزانة الطويلة الأمد) وثانيا معدل المخاطرة. والحكومة تستطيع بشكل مباشر أو غير مباشر وبتكاليف منخفضة دعم كلا العاملين من أجل تخفيض الفائدة على المواطن.
دعم الحكومة لتخفيض معدل الفائدة العام يكون مباشرا من حيث التكلفة. ففي أمريكا يُمنح المتمول من أجل تملك منزله عفوا عن احتساب قيمة الفائدة من ضمن ضريبة الدخل. فمثلا المواطن الذي يدخل عليه 100 ألف دولار سنويا وضريبة الدخل عليه 25 في المائة سيدفع 25 ألف دولار كضريبة دخل فيصفى له 75 ألف دولار لينفقها على احتياجاته. فلو كان هذا متمولا لمنزل ويدفع ما قيمته 20 ألف دولار كفائدة صافية في تلك السنة على قرضه الذي تمول به فيحق له خصمها من مجموع دخله السنوي. وعندها ستحسب عليه ضريبة الدخل على أساس 80 ألف دولار بدلا من 100 ألف دولار فتصبح الضريبة 20 ألف دولار فتخسر الحكومة الفيدرالية من دخلها خمسة آلاف دولار فتكون بذلك قد أسهمت فعليا مع المواطن بربع قيمة الفائدة دون أن تُنقص حق البنك شيئا. ونحن في بلادنا لا ضريبة للدخل عندنا لأن الحكومة ليست في حاجة إليها، ولأن الضرائب من أهم معوقات الإنتاج كما هو معروف. وهذا لا يعني أن الحكومة لا تستطيع الإسهام في هذا العامل بل نحن في الواقع أشد حاجة منهم. لأن الرواتب هناك يحتسب فيها حساب الضريبة من جهة التوظيف فيُزاد في الرواتب أصلا، وأما عندنا فلا. وعليه فالحكومة تستطيع أن تصرف للمواطن (المتمول لمنزله) نسبة من قيمة الفائدة التي يدفعها على تمويله ويكون ذلك مباشرة له، لأن تقديم المعونة الحكومية مباشرة للمستفيد لها أثر تضاعفي واقتصادي أكبر من تقديمها لدعم أسعار السلع نفسها في الغالب. كما أن هذه المعونة ستكون تناقصية سنويا لأن قيمة الفائدة المدفوعة على التمويل تتناقص سنويا مع التسديد لرأس المال، وهذا مما يساعد المواطن لأن حاجته الآنية والقيمة الشرائية إلى النقود في بدايات سنوات التمويل أعظم منها في نهاياته.
هذا دور الحكومة في دعم معدل الفائدة العام ويبقى دورها في دعم تخفيف معدل المخاطرة. عامل المخاطرة تحكمه أمور كثيرة منها توافر السيولة، ومخاطرة التعثر في الدفعات، ومخاطرة الإفلاس، ومخاطرة انهيار أسعار العقارات وتخلي ملاك المنازل عنها، ومخاطرة الزمن وتدخل فيه مخاطرة تغير سعر الفائدة ومخاطرة التضخم. هذه المخاطر مستقلة عن بعضها في التعامل معها ولكنها متداخلة في السبب وفي النتيجة ومعتمدة بعضها على بعض، فوقوع واحدة منها يجر المخاطر الأخرى، وجميعها قد يكون بسبب خارجي أو داخلي، لذا ففي هذا المقال نشير إلى بعض الحلول بإيجاز شديد لكنه غير مخل.
أولا مخاطرة شح السيولة: البنوك والشركات الممولة للمنازل تحتاج إلى تعويض السيولة التي ستُحتجز لمدة طويلة قد تصل إلى 30 عاما. ووزير المالية صرح بأن هناك خطة لإنشاء شركة حكومية على غرار «فاني ماي» لشراء قروض المنازل. و«فاني ماي» أنشئت بداية كهيئة حكومية عام 1930م من أجل توفير السوق الثانوية لقروض المنازل. وهذا يعني أن هذه الهيئة تتعهد بشراء قروض المنازل من البنوك على شكل سندات قروض منزلية ثم تبيعها وتشتريها في سوق السندات فتكون بذلك قد عوضت السيولة للبنوك. كما أن مخاطر تغير سعر الفائدة والإفلاس والتضخم وغيرها قد أزيح عن كاهل البنك إلى كاهل من يملك سند التمويل المنزلي، فالقرض المنزلي لم يعد في سجلات البنك. وبذلك يكون البنك قد حصل على ربح تأسيس صفقة التمويل وكذلك يحصل على ريع من تحصيل الدفعات ومتابعة الرهون في حدود نسبة 0.25 في المائة من أساس قيمة التمويل.
وبعد ذلك خُصصت «فاني ماي» وأضيفت إليها شركة أخرى تهتم غالبا بالممولين من غير البنوك وهي شركة فردي ماك. وكلتاهما تتمتعان بدعم سيولة غير محدود من الحكومة الأمريكية (ثقة وضمان دون استخدام فعلي لهذا الدعم) مما سهل عليهما تمويل أنفسهما ذاتيا وبتكلفة منخفضة عن طريق إصدار سندات خاصة بهما. وعند التأمل في هذا الحل، يلاحظ هنا أن الحكومة الأمريكية لم تدفع تكلفة مباشرة بل إنها استخدمت الثقة الممنوحة لها في دعم هذه الشركات، ومن بعد ذلك قامت هذه الشركات المضمونة من الحكومة بتمويل نفسها من المجتمع ثم استخدمت هذا التمويل من أجل شراء الرهون من البنوك لضمان توفير السيولة للبنوك ثم عادت هذه الشركات وباعت بعض سندات هذه الرهون في سوق السندات وتحرك بذلك الاقتصاد كله من غير تكلفة على الدولة إلا بذل ضمانها. (وما حدث لهاتين الشركتين أخيرا فهو بسبب عدم تحوطهما طمعا في تحقيق أرباح كبيرة). وشرط حدوث ذلك السيناريو الجميل هو وجود سوق حي للسندات الذي عن طريقه يمكن تحقيق ذلك. وبتحقيق ذلك تنخفض الفائدة على الرهن العقاري إلى ما يقارب النصف. فمن دون سوق السندات لن تستطيع الحكومة مواصلة شراء الرهون، وستعود الشركة التي أعلن عنها وزير المالية كصندوق القرض العقاري تستنزف مخصصاته سريعا، وسيحدث شح السيولة وستتركز المخاطرة على جهة الممول بدلا من توزيعها على المجتمع عن طريق بيع سندات الرهون مما سيؤدي إلى رفع سعر الفائدة إلى الضعف أو أكثر.
ولإكمال هذه النقطة فإنني أعتقد أن الشركة السعودية - التي صرح وزير المالية بالنية في إنشائها على غرار «فاني ماي» - أعتقد أنها ستقوم بعمل آخر إضافة إلى شراء الرهون وبعيدا عنه وهو التحكم في السيولة النقدية عوضا عن سندات الخزانة الشحيحة الوجود بسبب فوائض الميزانية. فإن صح اعتقادي فإن مؤسسة النقد ستصبح أكبر المشترين لسندات هذه الشركة لاستخدامها في عمليات التحكم في السيولة (على أن يكون جزء خاص منها مضمونا من الحكومة بجانب الرهن العقاري لتخفيف تكلفة إدارة التحكم بالمعروض النقدي) وتفصيل ذلك ليس هذا محله.
ثانيا، مخاطر التعثر في الدفعات أو الإفلاس: فعلى الرغم من أن شراء الرهون من البنوك من قبل طرف آخر كشركة فاني ماي يزيل جميع المخاطر عن البنك، إلا أنها ستُحمل على مشتري الرهون. كما أنه ليس كل الرهون ستباع فالبنوك ستحتفظ ببعضها. والشركة الحكومية المزمع إنشاؤها عندنا لا تستطيع تحمل المخاطر جميعها وإلا أصبحت ضمانا اجتماعيا، كما أن المستثمر الذي سيشتري سندات الرهون المنزلية من السوق الثانوية - أي سوق السندات - يحتاج أيضا إلى تخفيف مخاطر التعثر في الدفعات أو الإفلاس لكي يقبل على شراء هذه السندات ذات العوائد المنخفضة، فكل مخاطره تنعكس على سعر الفائدة. ولذا فشركتا فاني ماي وفردي ماك لا تشتري القروض من البنوك إلا بشرط أن تكون هذه القروض مضمونة من جهة حكومية. وهناك جهات حكومية كثيرة في أمريكا تضمن أنواعا مختلفة من الرهون العقارية، من أهمها الإدارة الفيدرالية للإسكان وهي جهة حكومية تمول نفسها ذاتيا وتقوم بضمان قيمة 79 في المائة من الرهون العقارية مقابل أجر بخيس يدفع شهريا مع الدفعة الشهرية للقرض. وهناك أيضا جهة تهتم بشؤون العسكريين القدامى. وبقيت عندنا مخاطر الالتزام بموعد التسديد الشهري. لذا فهناك جهة حكومية في أمريكا تسمى «جني ماي» تضمن للبنك أو لمن اشترى القرض أن تدفع القسط الشهري في موعده إذا تخلف المتمول عن السداد ثم تحصله فيما بعد من المتمول. والخلاصة أن هذه الضمانات كلها تخفف من نسبة المخاطرة على تمويل الرهن العقاري ومن ثم تنعكس على تقليل سعر الفائدة لتمويلات المنازل.
ونختم بمثال لتتضح الأمور: فلو نظرنا إلى أسعار اليوم فسنجد أن سعر الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل (30 عاما) فسنجدها 4.53 في المائة وسنجد متوسط سعر الفائدة المثبتة لـ 30 عاما على الرهن العقاري عندهم 5.01 في المائة بل إنها تصل إلى 4.7 في المائة في الرهن المتكامل الشروط. أي أنها 2.89 في المائة حسب طريقة البنوك السعودية (المُضللة). ففي أمريكا منزل بمليون ريال يكون قسطه الشهري نحو 5200 ريال بمجموع فوائد مقدارها 867 ألف ريال فوق رأس المال، بينما تمويل المنزل عندنا الآن يزيد قسطه على سبعة آلاف ريال بمجموع فوائد مقدارها 1.500.000 ريال سعودي زيادة عن رأس المال الذي هو مليون ريال. فمن هو الرأسمالي هم أم نحن!
وفي المثال السابق لو تدخلت الحكومة في تحمل ربع الفائدة لما تجاوزت مساهمتها 220 ألف ريال على مدى 30 عاما وهي مساهمة أقل من القرض العقاري المتاح حاليا وأكثر نفعا وأعظم أثرا.
فنظام الرهن العقاري في أمريكا قد أزال معدل المخاطرة. فسندات الخزانة الأمريكية تعد خالية المخاطر. وبناء على ذلك فقيمة المخاطرة كلها أقل من 0.5 في المائة، وهي الفرق بين عائد سند الخزانة وسعر الفائدة على الرهن. وهذا الفرق ليس فقط لأن ارتهان المنازل السكنية يعد ضمانا جيدا للقرض ولكن لأن المخاطر قد خُففت حتى أصبحت شبه معدومة.
إذا فُهم هذا عرفنا لماذا أسعار القروض المنزلية مرتفعة عندنا ضعفين بل أكثر مما عند الأمريكان. ويجب أن نعلم أن نظام الرهن العقاري مجردا لن يعمل على تخفيض سعر الفائدة من دون إزالة المخاطر السابقة. فهل سيخرج لنا نظام الرهن العقاري السعودي شبيها بما عند الأمريكان أم أنه سيكون مجرد قوانين تحمي البنك دون النظر إلى تخفيض التكلفة على المواطن؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي