كشف الحساب

إلى زمن قريب، ربما قبل أربعة عقود لا غير، كان فتح حساب مصرفي من قبل الأفراد في المملكة أمراً غير مألوف، بل كان يعد مظهراً من مظاهر الترف والوجاهة لا يقدم عليه إلا القلة في المدن الرئيسة التي حظيت بخدمات بنكية. ذلك أن التعاملات النقدية كانت ملائمة وكافية لنمط الحياة السائد يومئذ الذي اتسم بتكلفة عيش زهيدة في ظل أجور ورواتب متواضعة. بمعنى آخر لم تكن هناك مشتريات مكلفة تتطلب دفع أثمانها بشيكات، كما لم تكن هناك وفورات أو فوائض مالية لدى الأفراد تستحق إيداعها في خزائن البنوك. أما الاقتراض فقد كان يعد من النقائص والعادات الذميمة، و لا يلجأ المرء إليه إلا نادراً عندما يواجه ظرفا غير عادي كزواج أو مرض مقعد. أي أنه كان يتم في أضيق الحدود وبشكل خفي في هيئة قرض حسن من الموسرين للمحتاجين دون ضمانات أو رهون عدا ما نص عليه الشرع من مكاتبة وتوثيق. كان القاسم المشترك بين تلك التعاملات الثقة المتوارثة بين أفراد المجتمع في بيئة تفخر بقيمها الإسلامية كالأمانة، والوفاء بالعقود وغيرها، وهي من أهم القيم التي افتقدناها.
ذلك كان جزءاً من التاريخ الحديث لقطاع المال في المملكة، الذي تغيرت صورته اليوم عن الأمس بشكل كلي وفي وقت قياسي نسبيا. إذ انتشرت فروع البنوك في أرجاء المملكة بقاعدة عملاء تقاس بالملايين، منهم من يحتفظ بأكثر من حساب مصرفي، ما جعل البنوك من ضرورات الحياة التي لا يمكن لأي فرد في المجتمع الاستغناء عنها مهما كان موقعه. ومما ساعد على ذلك الانتشار وتنامي الدور الذي تلعبه البنوك في حياة الناس ارتفاع مستوى دخل الفرد والنمو السريع في سوق الأسهم. كما يعود الفضل في تلك القفزة، بعد الله تعالى، إلى الدعم الذي تقدمه الحكومة للبنوك والإشراف الدقيق عليها من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي.
وعلى رغم الشكاوى المتزايدة من المواطنين ضد الإجراءات المجحفة التي تمارسها البنوك في سياساتها الإقراضية، يمكن القول من منظور آخر إن المستوى التقني للخدمات التي تقدمها المصارف السعودية لعملائها يضاهي نظيراتها في دول سبقتنا بعشرات السنين في ذلك المضمار. إذ نجحت تلك المصارف، بقيادة مؤسسة النقد، في توظيف شبكة الإنترنت والاتصالات للتواصل مع العميل على مدار الساعة وتمكينه من إدارة حسابه مباشرة وإن كان مقيما في الطرف الآخر من الكرة الأرضية من خلال نظم إلكترونية متطورة وآمنة. فلم يعد العمل المصرفي مرهونا بالموقع الجغرافي للمصرف أو ساعات دوامه الرسمية. لكن اللافت للنظر في تلك النقلة التقنية أن «كشف الحساب» الذي يتلقاه العميل من مصرفه في نهاية كل شهر لم يحصل على نصيبه من التطوير على مدى كل السنين التي مضت.
إن «كشف الحساب» يعد الوثيقة المعتمدة التي تحدد المركز المالي لكل عميل في مواجهة البنك، ومن ثم تقتضي الضرورة أن تكون بنود و مفردات ذلك الكشف واضحة ومفهومة للعميل، كما ينبغي أن تصدر في تواريخ منتظمة. إلا أن ما يلاحظ على بعض البنوك اليوم، إن لم يكن كلها، أن الحركات أو العمليات التي تسجل في كشوف الحسابات يكتنفها غموض كبير ورموز تكاد تكون شبيهة بشفرة لا يستطيع قراءتها إلا موظف البنك، بينما الكشف أعد أصلا لاستخدام العميل لا البنك. ومن ثم قد تستحسن مؤسسة النقد إخضاع النماذج المستخدمة والآليات المطبقة في إصدار كشوف الحسابات للمراجعة وتوحيدها بحيث تظهر القيود بلغة مفهومة للقارئ العادي يتضح منها طبيعة المبلغ، أي إن كان راتبا، أرباحا، أم غيرهما، وكذلك مصدر المبلغ إن كان من زيد أو عمرو من الناس. و من حسن الحظ أن جميع تلك البيانات متاحة للبنوك، و لن تترتب على إعادة تبويبها مصروفات إضافية.
ثم هناك سبب آخر يدعو إلى ضرورة تطوير «كشف الحساب» يرتبط بقضية غسل الأموال وإلحاق الضرر بالآخرين. إذ على الرغم من الجهود الجبارة التي تبذلها مؤسسة النقد العربي السعودي في مراقبة حركة الأموال تبقى على صاحب الحساب مسؤولية مراقبة حسابه والتبليغ عن أي حركات تحدث من خلاله لا علاقة له بها. لكن تلك المسؤولية لا يمكن لصاحب الحساب الاضطلاع بها إن لم تكن قيود الكشف مفهومة، وأن تصله المعلومة عن أية حركة في حسابه في وقتها وفور حدوثها. وهذا يدفعنا إلى الطلب من المؤسسة تكليف البنوك باستخدام تقنية الاتصالات المتوافرة بإشعار العميل عن كل حركة تتم على حسابه أسوة بالخدمة التي باتت منتشرة حاليا في بطاقات الائتمان والصراف.
هناك جوانب قصور أخرى يمكن إضافتها لملف « كشف الحساب» كالتأخير في توزيعه والإهمال في إيصاله لصاحبه إلى حد أن كثيرا ما يستلم البعض كشوف حسابات غيرهم تحت ذريعة تشابه في الأسماء أو العناوين، وهو خطأ قد يكلف صاحبه في المصارف الغربية وظيفته أو ربما أكثر من ذلك، أما هنا فلدينا دائما مخرج «قانوني» يعرف باسم «جل من لا يسهو»!
لقد امتدت يد التطوير إلى مساحات واسعة في القطاع المصرفي السعودي، وأحسب أن «كشف الحساب» لن يستعصي على تلك اليد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي