المأساة الإنسانية بين هاييتي ولبنان..!
هناك تعريف واحد في رأيي للخبر السيئ الذي يرتبط بحدث له آثار سيئة في حياة الناس، والخبر الجيد يتعلق بحدث له آثار إيجابية في حياة الناس، ودور الصحافة في رأيي عند تغطية الأحداث بأنواعها أن توضح لجمهور القراء من الناس كيف سيترك هذا الحدث آثارا إيجابية أو سلبية في حياة الناس.
المعاناة جزء من حياتنا، هناك المعاناة اليومية التي نعيشها عندما نرى الظلم ولا نستطيع فعل شيء نحوه، وعندما نرى الضعيف ولا نستطيع نصره، وعندما يسيطر علينا الخوف من أن نفقد الأعزاء، أو عندما يصيبنا المرض والحزن والإرهاق من مصاعب الحياة. عندما يتعاطف الإعلام مع معاناتنا فحينها يستحق تقديرنا لأنه يسلط الضوء على ضعفنا الإنساني، وعندما يحتفل الإعلام بالإنجاز الإنساني، فهو يعطينا الأمل في التعامل مع الحياة. بمعنى آخر، عندما يرى الإعلام الحياة من زاوية الإنسان العادي فهو يقترب منه ولا يتعالى عليه.
في الأيام الماضية حصلت مأساتان إنسانيتان، زلزال هاييتي وسقوط الطائرة الإثيوبية بعد إقلاعها من بيروت، ورغم الفارق الكبير بين المأساتين من حيث الحجم، فإن الفارق كان أيضا كبيرا ومؤلما في تعامل الإعلام العربي مع المأساتين.
في حالة زلزال هاييتي، قامت وكالات الأنباء العالمية ومحطات التلفزيون الغربية الكبرى والصحف الأمريكية والأوروبية بتغطية الحدث وتغطية القصص الإنسانية المرتبطة به. استضاف لاري كينج شخصا أمريكيا بقي تحت الركام ساعات قبل إنقاذه ليحكي عن المعاني العميقة المرتبطة بنجاة إنسان من الموت، وحكاية ساعات الانتظار والخوف والأمل، وحكى الإعلام عن معاناة أسر من هاييتي فقدت أفرادا في الزلزال، وحكاية ملجأ أيتام بقي بلا إعانات، وحكاية الرجال الشجعان الذين عملوا ليل نهار لإخراج الأسر من تحت الركام. في الحقيقة لم يمر يوم دون تغطية مكثفة لهذه القصص، التي تابعها الناس باهتمام، لأنهم يوما من الأيام قد يتعرضون لهذه المأساة، ولأن الإنسان في النهاية يتعاطف مع أخيه الإنسان في مأساته ويفرح لنجاته.
الإعلام العربي بدوره نقل هذه القصص عن الإعلام الغربي، وهذا طبيعي فنحو أكثر من 50 في المائة مما ينشر في الإعلام العربي مصدره الأساسي الإعلام الغربي، والمحطات الإخبارية العربية تستهلك قدرا يتجاوز 70 في المائة من الصور التي تأتي من وكالات الإعلام الغربية بما فيها تلك الصور التي تخرج من دول عربية كفلسطين والعراق وغيرهما.
ولكن لما سقطت الطائرة الإثيوبية بعد إقلاعها من بيروت كان الأمر مختلفا. ابحث على الإنترنت وستجد كل الأخبار تتحدث عن تحليل أسباب سقوط الطائرة ورد فعل الحكومة اللبنانية والبحث عن الصندوق الأسود، وباستثناء الخبر المقتضب عن زوجة السفير الفرنسي في لبنان، والتي كانت على متن الطائرة، فإن الإنسان لا وجود له في تلك الأخبار. الإنسان في هذه الأخبار مجرد أرقام، مجرد ضحايا، جزء هامشي من القصة ليس له الكثير من المعنى، ليس هناك قصص عما يعنيه الفقد في حياة الأسر اللبنانية والإثيوبية التي فقدت أفرادها، وكل المشاعر الإنسانية المرتبطة بالحدث، وكأن الطائرة التي سقطت لم يكن عليها بشر (باستثناء خبر عن الحداد الرسمي في لبنان على الضحايا).
من المؤكد أن الناس تحتاج دائما للأرقام والمعلومات والأخبار الموضوعية عما يحصل من حولنا، وهذا ما يقوم به الإعلام عادة، ولكن الناس تحتاج أيضا - في عصر فيه حجم ضخم من الآلام والمتاعب - أن ترى تفاعلا إعلاميا مع مفردات حياتها وإنسانيتها، وهذا ما يفسر ما نشر على موقع CNN.com بأن القصص الصحافية المهتمة بالحكاية الإنسانية، أو ما يسمى في أدبيات الإعلام بـ Human Interest Stories هو الأكثر قراءة على الإطلاق مقارنة بكل الموضوعات والأخبار الأخرى.
هذه المفارقة بين المأساة الإنسانية الغربية والعربية التي حصلت بين هاييتي ولبنان ستتكرر في كل مأساة قادمة، ولك أن تتابع ذلك بنفسك، ما يطرح السؤال عن السبب في هذه المفارقة.
هل السبب هو نشأة الإعلام العربي كإعلام رسمي تأسست له تقاليد معينة في كتابة الأخبار قبل أن يتحول إلى وضعه الحالي؟ هل السبب أن القارئ العربي بطبيعته يختلف عن القارئ الغربي ولا يحب القصص الإنسانية؟ هل أصبحت المأساة جزءا من حياة الإنسان العربي لدرجة أنه لا يتحمل مزيداً من التفاصيل عنها؟ أم أنه فقط الإعلام العربي الذي لا يحب بذل الجهد في هذه الموضوعات أو يظنها أتفه من أن يتم التركيز عليها؟
لا أعرف الجواب، ولكنني أعرف أن الإنسان ليس جزءا من حكاياتنا.