التربية في مربعها الإنساني (6 من 6)
كان الحديث فيما مضى من حلقات عن الأركان الثلاثة وهي المحبة والاحترام والحرية, فالمحبة هي تأكيد للشعور بالمقبولية عند الآخرين، ومن غير الشعور والإحساس بالمقبولية لا يكون هناك تقارب نفسي وعاطفي مع الأبناء أو الإنسان المراد تربيته، وبالتالي تنكمش مساحة التأثير للعملية التربوية. وركن المحبة فيه مكون داخلي وغير ظاهر وهو الإحساس فعلا بالحب للآخر، وهناك مكون خارجي وظاهر، وهو لا يقل في الأهمية عن المكون الداخلي، وهذا المكون هو المودة وتعني إظهار الحب للأبناء. أما ركن الاحترام فهو يلامس ثقة الإنسان بنفسه, فالإنسان الذي يرى نفسه في بيئة لا تحترم وجوده كإنسان ينشأ ومعه عقدة الشعور بالدونية والنقص. وقد تبين لنا خطورة هذا المرض النفسي عند الإنسان وهو الشعور بالدونية لأن مثل هذا الإنسان وتحت ضغط الحاجة لإشباع حاجته للاحترام من قبل الآخرين قد يتحول إلى إنسان مستبد وعنيف ينتقم لدونيته باحتقار الآخرين وإذلالهم عندما يتسلطن عليهم, بل إنه قد يذل نفسه ويسحق كرامته ويبيع مبادئه وقيمه ليتزلف لمن هو أعلى منه حتى يعطيه الفرصة للتحكم في الآخرين، وعندها ينفس فيهم ما يحس به هو من دونية في مقابل الآخرين من خلال إذلالهم واستبعادهم. وما تحول الإدارة في ثقافتنا إلى معنى من معاني التسلطن والتحكم بالآخرين إلا نتيجة طبيعية لانتشار ممارسات تربوية ليس فيها احترام للإنسان كإنسان. فالإنسان الذي يعاني الإحساس بالدونية والشعور بعدم الاحترام هو إما إنسان يرضى بالمهانة والاحتقار ولا يجد في ذلك انتقاصا لإنسانيته، وإما أن يكون إنسانا انتهازيا يتحين الفرص للانتقام لنفسه من خلال تحقير الآخرين وإذلالهم وقد يكون هؤلاء الآخرون المساكين هم الأبناء أو الزوجات أو المرؤوسين أو ممن شاءت الأقدار أن تكون حوائجهم عنده. أما ركن الحرية فهو ركن الكرامة الإنسانية, فالإنسان الذي يربى بانتزاع الحرية منه هو إنسان ذليل، وإنسان كهذا لا ينتظر منه عزة وكرامة ولا يرجى منه عطاء وحياة منتجة. فالإنسان هو مخلوق عظيم قال الله - سبحانه وتعالى - عنه عند خلقه ''فتبارك الله أحسن الخالقين'', وتتجلى هذه العظمة فيما يملكه هذا الإنسان من قدرات وإمكانات ولا يتاح لهذه القدرات والإمكانات من أن تنطلق إلا عندما يعيش الإنسان الحرية في حياته. وقد بينا أن الحرية المقصودة هنا هي الحرية التي يعيشها الإنسان في إطار عبوديته لله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن هذه العبودية هي التي تضمن للإنسان تحرره وتجرده من شهواته ونزواته وخوفه من الآخرين, هي حرية ترشدها العدالة الإلهية وتمدها بالطاقة الرحمة الربانية، هي حرية تريد بالإنسان أن يعيش في رحاب النور الإلهي بعيدا عن ظلمات الجهل وظلم الإنسان لأخيه.
أما الركن الرابع والأخير في هذا المربع الإنساني للتربية هو السلام, فلا يمكن بناء شخصية الإنسان وهو يعيش الخوف, يعيش في بيئة أسرية لا تعطيه الإحساس بالأمن والاستقرار. فالإحساس بالخوف والشعور بعدم الاستقرار يخرب الكثير من الجوانب النفسية في شخصية الإنسان. فالإنسان الذي يعيش في بيئة أسرية يحس فيها بالخوف الزائد عن حده الطبيعي تجعل منه إنسانا مترددا وغير مغامر ولا يريد أن يتخذ القرار لنفسه, فهو إنسان يخاف من الخطأ حتى قبل حدوثه ويهاب من العوائق والمشكلات حتى وإن كانت صغيرة وغير مؤثرة. والإنسان الذي يعيش الخوف في داخله إنسان يعيش هاجس رضا الآخرين بشكل مبالغ فيه أو مرضي في بعض الأحيان, فهو مشغول بإرضاء الآخرين أكثر من اهتمامه بتصويب ما يقوم به من أعمال وممارسات. والإنسان الذي يربى بالخوف قد ينتهي به هذا الخوف إلى أن يكون إنسانا متشائما لا يرى من النتائج إلا أسوءها ولا يجد في نفسه ثقة بالآخرين، وإنسان كهذا لا يستطيع أن تكون له علاقات سليمة مع الآخرين. فعندما نجد إنسانا مضطرب العلاقة مع الآخرين لعلنا نجد عند تحليلنا لشخصيته أن هذا الاضطراب هو نتيجة لما يعانيه هذا الإنسان من اضطراب نفسي سببه ذلك الخوف الذي كان يحس به في البيئة أو الأسرة التي عاش فيها طفولته وشبابه. وهناك الكثير من البحوث والدراسات النفسية التي تربط بين الشعور بالخوف والكذب عند الأطفال, فالطفل وبشكل لا إرادي يلجأ للكذب لحماية نفسه من الأذى أو العقاب، واستمرار هذا الشعور بالخوف يكرس عنده حالة الكذب، بل قد تتطور عنده هذه الحالة فيصبح الكذب جزءا من شخصيته، وإن يكون للكذب وظائف أخرى غير الحماية في حياته وخصوصا عندما تقل تلك الحالات التي يشعر بها ذلك الإنسان بالخوف. فالتربية عندما تفشل في إيجاد أجواء من السلام للطفل فإنها تسلب من عنده الشعور بالأمن والاستقرار الداخلي، وعندما لا يكون هناك استقرار داخلي لا يكون هناك استقرار خارجي، وعدم الاستقرار هو معنى من معاني الشقاء للإنسان.
أما كيف نفعل هذا الركن في العملية التربوية فهناك الكثير مما يقال في هذا المجال ولكن يمكن أن نختصره في النقاط التالية:
1- ترشيد الممارسات العقابية: هناك اعتقاد خاطئ عند الكثير وهو أن العقاب يعد من الأمور الأساسية في العملية التربوية، بل إن هناك من يعتقد أن الطفل لا يربى بالشكل الصحيح إلا عندما يعيش في ظل التهديد بالعقوبة. فأخطاء الطفل حتى وإن كانت بسيطة لا بد لها من أن تواجه بالعقوبة النفسية والبدنية لكي يتعلم الطفل من أخطائه، وهذه نظرة تربوية في غاية الخطورة. فالكثير من الأشياء الخاطئة كما هي الأشياء الصحيحة هي فرصة مهمة لتعليم الطفل وإثراء خبراته في الحياة, فوقوع الخطأ لا يعني بالمطلق استحقاق الطفل للعقوبة بل علينا أن ننظر لهذه الأخطاء على أنها فرصة لتعليم الطفل بأن هناك أمورا غير صحيحة، وتجنبها يصب في صالحه. فالمطلوب إذا هو أن نرشد من فهمنا وممارساتنا للعقوبة لأن العقوبة في أصلها تخويف للإنسان، والمبالغة بالتخويف تعني أننا سننتج إنسانا خائفا ومترددا، والإنسان الخائف هو إنسان غير فاعل في الحياة.
2- إدارة الخلافات الأسرية: لعل أكثر الأمور التي تؤدي بالطفل إلى الشعور بالخوف هي الخلافات الأسرية وعدم حسن إدارتنا لها, فالطفل يشعر بعدم الأمان عندما لا تكون هناك أجواء من السلام في البيت. فإذا كانت الخلافات الأسرية هي ربما من الأمور الطبيعية في الأسرة، فإن من غير الطبيعي أن يتحول هذا الخلاف إلى تبادل ممارسات عنيفة بين أطراف الأسرة الواحدة، فسوء إدارتنا لهذه الخلافات أمام أبنائنا يجعل من هذه الخلافات خبرات سيئة في حياتهم. فالطفل يراقب ما يدور من خلافات في الأسرة وعندما تنعكس هذه الخلافات على استقرار الأجواء في البيت فإن عدم الاستقرار هذا يبعث في داخله الخوف وعدم الاستقرار الداخلي. هذا الكلام لا يعني المطالبة بعدم تعريض الطفل بالكامل للخلافات الأسرية لأن هذه الخلافات لا يمكن تجنبها بل علينا توظيفها واعتبارها جزءا من التربية، ولكن بشرط أن نحسن من تعاملنا وإدارتنا لهذه الخلافات بالشكل الذي لا يولد عنده الخوف بل يعطيه الفرصة للتعلم منها.
3- الحذر من تعرض الطفل للعنف البدني والنفسي: لعل أكثر ما يسلب الشعور بالأمن والسلام عند الطفل هو تعرضه للعنف, فالطفل عندما يتعرض للعنف في أسرته سواء كان هذا العنف بدنيا أو معنويا يكرس من حالة الضعف عند الطفل، ومن الضعف ينتج الخوف وعدم الشعور بالأمان. فالتربية الحقة هي التي تهتم بأن تكون هناك بيئة ليس فيها ممارسات عنيفة بحق الطفل، والمشكلة أن المجتمع في هذه الأيام يهتم فقط بالعنف البدني والذي هو اليوم بحق من المشكلات الأسرية المهمة، إلا أنه من المطلوب أيضا الاهتمام بالعنف المعنوي والنفسي لأن مثل هذا العنف هو الأكثر انتشارا وليس بالأقل أضرارا من العنف البدني.
ختاما هذه هي الأركان أو أضلاع المربع الإنساني للتربية, فالمحبة تشعرنا بالمقبولية عند الآخرين والاحترام يخلصنا من الشعور بالنقص والدونية، وأما الحرية فهي تضمن للإنسان كرامته، وكرامة الإنسان هي أمانة الهيبة لا يعيش الإنسان إنسانيته إلا بالحفاظ عليها، أما الركن الأخير فهو السلام وهو يهتم بجعل الإنسان مطمئنا وغير خائف لأن الإنسان الخائف وغير المطمئن هو إنسان مضطرب ولا ينتج إلا حياة مضطربة.. إنها مقاربة موجزة لحركة التربية في حدودها الإنسانية.