خفايا حرص أمريكا على ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات

ما كان قطع النفط عام 1973م إلا قرارا سياسيا قويا وشجاعا يرمز للتضامن الإسلامي ولنصرة الجهاد ضد الصهاينة، ولكن لم يكن ينبغي له أن يكون ذا أثر اقتصادي طويل الأجل لولا أن أمريكا عملت على ذلك. لم تخطط أمريكا لحرب أكتوبر كما يزعم الثوريون العرب ولم تعلم بها قبل حدوثها، ولم تكن تتوقع قطع النفط ولم تكن تتمناه، بل قد كان كلا الأمرين من المصائب التي حلت على أمريكا. ولكن الكوارث عند الأمريكان أحداث يجب التعامل معها بجدية وبتفكير استراتيجي لتجنب تكرار حدوثها، كما يجب عندهم عدم الوقوف عند البكاء على المصائب والترنم بأمجاد الماضي وحصر الفكر في الانتقام فقط، بل هم يتجاوزون ذلك كله لاستخدام المصيبة في تحقيق الغنيمة. مسكين هنري كيسنجر ما أشد تعبير منظره وهو يتأرجح على الدراجة الهوائية في ذهابه إلى عمله! فالإعلام الأمريكي في تلك الفترة لم يأل جهدا من تصوير النفط كأعظم سلعة استراتيجية على وجه الأرض، والتي لا يمكن شراؤها إلا بالدولار. في تلك الحقبة لم يكن لأحد من خارج النخبة الاستشارية الاقتصادية للبيت الأبيض أن يفهم لماذا تحرص أمريكا على ارتفاع أسعار النفط وكيف يمكنها عمليا من الناحية الاقتصادية المحافظة على ارتفاع أسعار النفط، فالإعلام والسياسة لا يستطيعان وحدهما رفع أسعار النفط لعقد من الزمان دون ازدياد الطلب العالمي أو نقصان في عرض النفط. تفسير الشرق والغرب لسياسات ومواقف أمريكا تختلف باختلاف ثقافات الشعوب بالجملة. فهناك منهج غالب العرب والروس الذين يفسرون نكبات الشعوب بنظرية المؤامرة، التي تعتقد أن الأمريكان يخلقون الأحداث لتمرير مخططاتهم الاستراتيجية. وهناك منهج المثاليين، كالمستغربين الذين يصورون الأمريكان وكأنهم ملائكة الله منقذو الشعوب. وهناك منهج الوسط الذي يعتقد أن أمريكا تعمل لصالحها دوما، ولكن الأمريكان لا يخلقون الأحداث ولا يمكنهم ذلك، بل هم يستغلون الأحداث الاستغلال الأمثل لتخدم مصالحهم. (ولا يعني نجاحهم الدائم أو المستمر، كاستغلالهم أفغانستان وتوظيف عواطف المسلمين في الحرب الباردة في حرب الروس ثم عاد عليهم مكرهم بالوبال والخيبة مع خلق الإرهاب).
في محاضرة غلب عليها أحاديث بني إسرائيل، شدد وزير النفط السابق أحمد زكي يماني على أهمية تخفيض أسعار البترول. في تلك المحاضرة حدد اليماني المعطيات والحيثيات التي عاصرها أيام توليه الوزارة واستنتج منها أن ارتفاع أسعار النفط هو مطلب استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، مبررا هذا المطلب الاستراتيجي بأنه من أجل دفع المجتمع الأمريكي والعالمي للاستثمار في البحوث التطويرية للطاقة البديلة التي ستنهي أسطورة النفط. ثم سحب اليماني هذه النتيجة طردا على الفترة الحالية مطالبا برفع الإنتاج من أجل خفض أسعار النفط وقطع الطريق على تحقيق النوايا الأمريكية. وفي اعتقادي أن اليماني لم يفهم اللعبة الأمريكية في السبعينيات فأخطأ في إدراك خفايا المطلب الاستراتيجي الأمريكي آنذاك ومن ثم أخطأ في حساباته مرة أخرى عندما أجرى هذا الفهم طردا على العقد الحالي. استشهد اليماني بمواقف وزير الخارجية الأمريكي آنذاك - هنري كيسنجر - التي كانت توحي بحرص أمريكا على بقاء أسعار النفط مرتفعة. واستشهد اليماني كذلك بشاه إيران الذي أخبره بأن الأمريكان صرحوا له برغبتهم في ارتفاع أسعار النفط، وأن شاه إيران أبدى تعجبه واستغرابه من موقف الشهيد الفيصل - رحمه الله - الذي كان مرتابا - بما آتاه الله من إخلاص وذكاء فطري منقطع النظير - من ارتفاع أسعار النفط.
لم يكن العالم آنذاك - عام 1973م - قد أفاق بعد من نقض الولايات المتحدة معاهدة برتن وود وتنصلها من تعهدها بالغطاء الذهبي للدولار الأمريكي، حتى أصبح العالم على أخبار قطع النفط وإطلالة وجه أزمة الطاقة المخيف. لم يكن لهذه الفرصة أن تمر ببساطة على الإدارة الأمريكية دون أن تستغلها الاستغلال الأمثل سياسيا واقتصاديا. وحيث إن بضاعتي في السياسة بضاعة مزجاة فرأيي فيها رأي تابع وليس رأيا مستقلا فلا أخوض فيها. كان الهدف الاقتصادي الاستراتيجي - الذي أتاح قطع النفط فرصة إمكانية تحقيقه - هو إيجاد غطاء حقيقي للدولار بدلا من الذهب إلى أن يستقر الدولار عالميا كعملة الاحتياط الدولية بعد نكسة تخليه عن الذهب. عمل الاستشاريون الاقتصاديون الأمريكيون على تحقيق هذا الهدف من خلال هدفين وسيطين هما المحافظة على زخم استمرار ارتفاع أسعار النفط من جهة وعلى تفادي آثار تكلفة هذا الارتفاع على الاقتصاد الأمريكي من جهة أخرى.
ارتفاع أسعار النفط بسبب المقاطعة العربية والإسلامية كان يجب أن يكون وقتيا لو أن السياسة النقدية الأمريكية لم تعمل على استمراره. فلم يكن له أن يدوم قرابة العقد من الزمان، ولم يحدث هناك أي تغير جذري في الطلب العالمي على النفط. وأما من ناحية العرض فنقصان النفط نقصانا وقتيا كان من المفترض أن يزول أثره بعد انتهاء المقاطعة. فمن أجل ذلك قامت السياسة النقدية الأمريكية بضخ الدولارات لتحافظ على ارتفاع أسعار النفط الاسمية من جهة ولتوازن تكلفة ارتفاع الأسعار بتخفيض القيمة الشرائية للدولار من جهة أخرى.
ارتفاع أسعار النفط يعني ارتفاع تكلفة الإنتاج الكلي، فما من شيء يُنتج إلا والنفط عامل من عوامل التكلفة الإنتاجية فيه. والمُنتج لن يتحمل ارتفاع التكلفة بمفرده بل سيُجير معظمها على المستهلك. والمستهلك إن لم يجد سيولة تمكنه من الشراء فلن يستطيع المنتجون بيع منتجاتهم، مما يؤدي إلى خفض الإنتاج الكلي والدخول في دوامة الانحسار الاقتصادي. وضخ الدولارات من غير إنتاج حقيقي مقابل له ينعكس فقط على شكل ارتفاع مجرد في الأسعار. ففي تلك المرحلة التي تخللتها صدمة النفط الأولى بقطع الإمدادات وصدمة النفط الثانية بأزمة الرهائن الأمريكية في إيران - أي من عام 1973 و1981م- ارتفع معدل الأسعار في أمريكا بنسبة 83 في المائة. وما ذاك إلا لأن البنك المركزي الأمريكي كان يقابل كل ارتفاع لأسعار النفط بضخ ''طبع'' مزيد من الدولارات من أجل تضييع القيمة الشرائية لدولارات النفط من جهة ومن أجل المحافظة على مستوى الطلب الأمريكي العام من جهة أخرى. وكلما ضخ البنك المركزي مزيدا من الدولارات انعكس جزء كبير من هذا الضخ على أسعار النفط فتحقق بذلك الهدف الوسيط الأول وهو المحافظة على زخم استمرار ارتفاع أسعار النفط. وتحقق بذلك الهدف الوسيط الثاني وهو الاستمرار في المحافظة على مستوى الطلب الأمريكي العام وذلك بتزويده بالسيولة اللازمة المكافئة لارتفاع الأسعار. فلم تحدث انكماشات اقتصادية في تلك الفترة إلا في عام 1975م وفي عام 1982م. وكذلك لم يحدث نمو يذكر في الاقتصاد الأمريكي من عام 1973/1975م ومن عام 1979/1981م . ولكن تحقق الهدف الاستراتيجي بتثبيت الدولار كعملة احتياط دولية وذلك بقلب مصيبة الأمريكان في قطع النفط عام 1973م وفي أزمة الرهائن عام 1979م إلى فرصة مكنت من إعادة هيمنة الدولار كعملة الاحتياط الدولية. وبعد أن تحقق هذا الهدف - خلال عقد من الزمن - لم يعد هناك أسباب تدفع أمريكا لارتفاع أسعار النفط، فانهار سوق النفط تحت تخلي أمريكا عن العمل على رفع أسعاره وبسبب دخول الدول المنتجة للنفط في حرب للأسعار بزيادة الإنتاج وبذل النفط رخيصا، وتناقصت القيمة الشرائية لاحتياطيات دول النفط النقدية المقومة بالدولار، وعاشت أمريكا نموا اقتصاديا قويا دام لأكثر من 25 عاما، ولم يُخرج النفط من نفق تدهور الأسعار المظلم إلا ظهور اقتصادات آسيا والصين والهند على ساحة الطلب العالمي للنفط .
هذا ما أعتقد أنه خفايا ما حدث في تلك الفترة. والتحاليل الاقتصادية الظاهرية المتنوعة لتلك الفترة تدور كلها حول أن البنك المركزي الأمريكي كان يضخ الأموال بسبب المحافظة على مستوى الطلب العام، وأن ارتفاع التضخم هو نتيجة لذلك ولارتفاع أسعار النفط، وهذه قراءة أكاديمية سطحية لا تخلو من نظر. وقد قرأت - أيام دراستي في أمريكا - كثيرا من الوثائق الحكومية عن حرص أمريكا على تسعير النفط بالدولار وهذا قدم لي جزءا من الصورة وهو إحلال النفط بدلا من الذهب كغطاء للدولار، ولكن لم تكتمل عندي الصورة حتى سمعت تلك المحاضرة التي أوضح اليماني فيها أن أمريكا كانت حريصة أيضا على ارتفاع أسعار النفط آنذاك. وبغض النظر عما قاله اليماني في تلك المحاضرة، فإن هذه النقطة هي التي أكملت الصورة التحليلية الاقتصادية لسر ارتفاع أسعار النفط لأعوام عدة من غير ارتفاع للطلب الحقيقي عليه في تلك الفترة. وهذا يشرح أيضا دوافع البنك المركزي الأمريكي لخلق مثل هذا التضخم المخيف في الأسعار، حيث إنه فُسر آنذاك وما زال يفسر حتى الآن أكاديميا بأنه كان خطأ في السياسة النقدية الأمريكية.
فإذا فُهم هذا، فقياس اليوم على الأمس هو خطأ استراتيجي فادح. فارتفاع أسعار النفط اليوم ناتج عن ارتفاع محض في الطلب العالمي وخاصة الصين والهند ودول شرق آسيا. والدعوة إلى تخفيض الأسعار الآن بحجة أن أمريكا حريصة على ارتفاع الأسعار من أجل دفع مسيرة تطوير الطاقة البديلة - كما قاله اليماني - هو قول لا يخلو من حاجة إلى إعادة نظرة. وعلى كل، فإن ارتفاع أسعار النفط فوق 100 إلى 140 دولارا عام 2008م لهو موضع ارتياب. حيث إن أسعاره الحقيقية قد قاربت بل تعدت قليلا الأسعار الحقيقية للنفط أيام أزمة الرهائن الأمريكية عام 1979م. فهل كان ذلك مجرد مضاربات محضة تحكي هيجان السوق الطبيعية قبل الانهيار واستغله بعض كبار المستثمرين للتخلص من مواقع استثمارية لهم؟ أم أن السياسة الأمريكية الاقتصادية كانت تُنهي حينها بطريقة تكتيكية فترة إنعاش الاقتصاد الأمريكي الذي امتد لسبعة أعوام والذي قام على إنتاج المنتجات المالية والذي بدأته عام 2001م بعد هجوم 11 من أيلول (سبتمبر). هذا القول الأخير هو الذي يتردد في صدري ولكنه يحتاج إلى تأمل وإلى معطيات - والتي قد تكون متوافرة عند العاملين بهذا الشأن - تشرح السيناريو الذي حدث بخطوات علمية منطقية. وطالما أن السيناريو المدعم بالمنطق والحقائق لم يتوافر بعد، فالصورة لا تزال مشوشة ويجب الوقوف عند القول إنها كانت المضاربات التي عادة ما تشتعل في آخر الطفرة لتفجر فقاعة السوق. وعلى كل فقد كانت السعودية من أكبر المستفيدين من هذا الارتفاع في أسعار النفط بأن باعت وسع طاقتها في تلك الأسعار المرتفعة وحفظت فوائضها المالية بعيدا عن المقامرات الدولية وتخطط الآن بحكمة لاستثمارها في نهضة اقتصادية وطنية دائمة ومتجددة. وزبدة الكلام، أن أسعار النفط اليوم قائمة على عرض محض وطلب محض من آلية السوق. والدعوة إلى زيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار ما هي إلا تقليد مقلد يردد أقوالا، لا يعلم مرددها لم قيلت وفي أي مناسبة. وشاهد ذلك أنها أقوال بلا دلائل علمية منطقية صحيحة، وحكايا القصاصين لا اعتبار لها في استراتيجيات الدول الحكيمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي