منطقة ذهبية بين الكاتب والقارئ
رأيُ القارئ في المادة المنشورة إلكترونياً سواء كانت مقالاً أو خبراً أو تحقيقاً، هو حق موهوب خلَّقته تكنولوجيا المعلومات، وأصَّله اتساع مداها طولاً وعرضاً وعمقاً، حتى بات تعليق القارئ أو نقده أو إضافته أو ملاحظته أداة كاشفة لبعض ثقوب فكرية أو لغوية قد تتخلل بعض أو كل المعروض من أفكار وآراء، بل إن تعليق القارئ يأتي مفسراً وموضحاً لبعض نقاط غفل كاتب المادة عن إيضاحها بالقدر الملائم، وهنا فإن مداخلة القارئ بوعي تمثل إضافة حقيقية لا تقل أهمية وقيمة عن المادة محل الملاحظة والتعليق.
غير أن ''بعـض'' القراء يهدرون هذا الحق، أو يسيئون استخدامه، حين يحولونه إلى أداة للعبث واللهو، فيتسابقون في منطقة التعليق ليس إلى النقد أو الإضافة أو التصحيح، وإنما إلى تشويه شخص الكاتب، أو قدح المادة التي كتبها، بعيداً عن التشريح الموضوعي المتزن لموضوع أو فكرة أو لغة المادة المنشورة، بل إن بعضهم لا يقرأ المادة من الأصل، وإذا قرأ لا يتأنى، أو يقرأ فقرة أو عبارة، ثم يهرول إلى إبداء ملاحظته، وبالتالي يأتي تعليقه مبتوراً، أو بعيداً عن مرامي فكرة الموضوع محل النشر. إن من حق القارئ أن يقول ما يشاء، لكن في ظل محددات أربعة:
الأول: أن يستخدم الحرية الممنوحة من خلال الصحافة الإلكترونية استخداماً عاقلاً ومسؤولاً وهادفاً.
الثاني: أن يلتزم الموضوعية والحيادية وأن يترفع عن النزعة الشخصية أو الفئوية.
الثالث: أن يتجنب الإساءة والسخرية، وأن يلتزم أدب الحوار الراقي المتحضر.
الرابـع: أن يقارع الكاتب بنفس منطقه وأسلوبه، فلو استخدم الكاتب أسلوباً علمياً، كان من الأجدر التعليق بطريقة علمية، وإن استخدم أسلوباً ساخراً رد عليه بنفس أسلوبه، دون الانزلاق إلى ما يخالف أدب الحوار.
هذه المحددات الأربعة تجعل من النقد والمخالفة في الرأي شيئاً محبباً لدى كل مثقف يؤمن بتنوع الفكرة وتعدد الرأي، بل إن كثيراً من المثقفين يؤمنون أن الموافقة الساحقة على كل ما يكتبون خُدعة ومُجاملة، ويعتبرون النقد الموضوعي الملتزم هدية يقدمها القارئ للكاتب على طبق من ذهب، سيراً على قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ''رحم الله رجلاً أهدى إليّ عيوبي''.
إذاً فالكاتب والقارئ في حاجة مُلحة إلى هذا التفاعل الإيجابي عبر رقعة الحرية التي أوجدتها المواقع الإلكترونية المعنية بالخبر والتحقيق والتحليل والمقال، فكلاهما يحتاج بقدر متساوِ إلى الآخر، فالكاتب يريد أن يعرف رأي الناس فيما يكتب، والقارئ يريد أن يعرف رأي الكاتب فيما يجري من أحداث وما يَعِنُّ من قضايا، وبينهما تتشكل منطقة للموافقة أو الاعتراض أو التصحيح تسمى منطقة ''التعليق''، وجميعها أمور صحية تدفع عجلة الفكر والحوار نحو أطوار أفضل، بل تنشأ عن الفعل من الكاتب ورد الفعل من القارئ جداول جارية وجديدة من الفكر والثقافة تكون نواة لتصورات أفضل وحلول أنجع للقضية محل الشد والجذب والنقد.
بقيت كلمة.. إن التعصب للأشخاص والآراء مفسدة لأي جدل ثقافي أو فكري، فالقاعدة تقول ''لا أحد يملك الحقيقة المطلقة''، وعليه فكل رأي مهما علا لا يعلو فوق المناقشة والمراجعة والنقد، وقد أقر بذلك أفذاذ في مجال العلم والفكر والفقه والثقافة.
فإذا ملك كل منا سعة في الصدر لاستقبال النقد الهادف فسوف تتغير أشياء كثيرة في ميدان الكلمة.
عدد القراءات: 478
* "هذه المادة منتقاة من "الاقتصادية الإلكترونية" تم نشرها اليوم في النسخة الورقية"