شهر الضحك
مر شهر من الضحك الوطني، قهقهت كل البيوت والمجالس ودواوين العمل، لم يكن بالطبع ضحكا جماعيا في ساحة أو مسرح، لم يكن ضحكا بالصوت والصورة، كان يهطل من الفضاء الإلكتروني يحط حروفا، كلمات، صورا، رسوما في شاشات الجوالات، تعلن عنها الرنات المتلاحقة في جوالات البلاد كلها.
كان شهرا للتهكم والسخرية بكل النكت عن سائر المواضيع أشعلته مجانية رسائل شركة الاتصالات السعودية.. كان طوفان النكت عارما مثيرا للذهول، يطرح علينا أسئلة مربكة فقد وضعنا أمام ملامح تكويننا النفسي وقدم لنا فرصة قراءة بعضنا بعضا مدنا ومناطق، مهنا وممارسات، رجالا ونساء كان الحصاد كشافا لخبايا وهواجس وتصورات وأفعال وردود أفعال تشكل بمجملها مادة خصبة جدا للدراسة الإنثروبولوجية والسيكولوجية التي يمكن من خلالها معرفة الدوافع التي تحرّك مجتمعنا في هذا الاتجاه أو ذاك، ما يثبطه وما يثيره، القاسم المشترك لمخياله وطبيعة الأرضية النفسية لهويته وغير ذلك مما ليس هاهنا مجاله.
لقد أسفر طوفان النكت عن وجوه عديدة لمكوننا الاجتماعي الراهن لعل أبرزها: نسف الاعتقاد السائد عنا بأننا صحراويون غلاظ، أجلاف، خشنو التعامل، ميالون للعبوس، وما إلى ذلك من الانطباعات الغاشمة أو المغرضة التي تصمنا في النهاية بأننا غير متحضرين، فقد برهنت الأسابيع الماضية بشكل قاطع فاقع على أن النكتة تكاد تكون هاجرت من شقيقتنا مصر التي اشتهرت بها على مدى التاريخ وصرنا نحن صُناعها، سادتها وسيداتها.. وذلكم بُعد إنساني رائع.. فالشعوب التي لا تحسن الضحك ولا صياغة النكتة، تصبح شيئا فشيئا عنصرية بغيضة تعيش في "غيتو" مثل إسرائيل!!
الضحك حالة تعبير مكثف عن الانتقال من البدائي إلى الحضاري، وشهر الضحك الذي عشناه كان في الواقع بكل ما فيه ورغم ما فيه، بل بسبب ما فيه، دلالة نضج اجتماعي، دلالة مكون ثقافي شعبوي عام، دلالة تذويب للحساسيات والحزازات ومواجهة الذات والتواصل وقبول الآخر عبر التشارك في استساغة تعليق بعضنا على بعض وأخذه على محمل الفكاهة والترفيه ليس إلا، فالسخرية ليست إثما ولا لعنة، إنما مؤشر نضج.. قال عنها إيتيل بري مور: (إنك تبلغ مرتبة النضج الكامل عندما تضحك ضحكتك الأولى ساخرا من نفسك) لأن من يسخر من نفسه، فكأنما هو يتطهر من ادعاءاته ومزاعمه.. أو هو كذلك بالفعل.
شهر من الضحك مارسنا فيه استدراج مخزون الذاكرة من نكت العالم، قام بعضنا بتغيير هويتها وسعودتها، قام بعض آخر بتغيير عنوانها البريدي من مدينة لمدينة أخرى، أو من منطقة لمنطقة أخرى، أو من مهنة أو فئة أو جنس أو صنف لغيرها، فيما قام آخرون بحبك مقاطع مسرحية قصيرة من كلمات قليلة، فيها خفة ظل عادل إمام وأمثاله، كما قام غيرهم بابتكار الألغاز والأحاجي الملغومة بالتهكم والفكاهة وشارك في المهرجان الأعيان، الكبار، الصغار، من الجنسين، فأشاعت النكت بيننا لهجة بعضنا بعضا وقاموسنا المناطقي، أدخلت كل واحد منا بيت الآخر، قادته إلى المسكوت عنه فتعرف القاصي بالداني، جلسنا في ضيافة بعضنا بعضا في حلقة سمر أو محفل وطني من البحر إلى البحر.. وإني لأرى ذلك رائعا، لا أوجس منه خشية أن يثير النعرات أو يؤجج الحساسيات.. فكل الشعوب المتحضرة ينكت بعضها على بعض، ما زادهم هذا إلا صحة وعافية، وخير لنا أن نجاهر بمخزوننا من بواعث الضحك فينا من أن نقمعها فنتحول إلى شعب يعاني انفصام الشخصية أو يعيش في حالة نفاق، جسر النكتة كفيل (مع غيره من الجسور المعنوية) بتعميق روح المواطنة والانتماء، فهذا الوطن يريدنا بالتأكيد ضاحكين كي نليق به ويليق بنا!!