إنكار الفساد يبدأ بالخوف من الخالق قبل المخلوق! (4)

العمل أمانة، والتهاون أو التفريط فيه، أو التطاول على ما تحت اليد من أموال وممتلكات، وحتى أدوات مكتبية، يعد خيانة للأمانة، وكفرا بما جاء به القرآن، قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) ''الأحزاب 72''، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) ''النساء 135''، وخيانة الأمانة، سواء بالاعتداء عليها بالاختلاس، أو الإهمال في حفظها، تعد من أبشع أنواع الفساد الذي نهى الله عنه، قال تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) ''الأعراف 56''، وقال تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) ''البقرة 205''. ولو تأملنا ما حدث في محافظة جدة، بعد واقعة السيل العظيم في شهر ذي الحجة الماضي، لوجدنا أن أسبابه تكمن في خيانة الأمانة، من قبل أشخاص عهد إليهم، من قبل الدولة، برعاية مصالح الناس، التي تتمثل في إقامة مشاريع التعمير والبناء، والخدمات والمرافق، كي ينعم المواطن بحياة كريمة هانئة، تكفل إمداده بالخدمات اللازمة لتوفير راحته، مثل الأمن، والاطمئنان على مسكنه، وسهولة الطريق إليه، ونظافة البيئة المحيطة به. وخيانة الأمانة لا تقتصر فقط على اختلاس ما تحت يد المسؤول، والاستيلاء عليه أو بعضه، بل تشمل الإهمال والتهاون في حفظه، وعدم الاهتمام بما يتطلبه العمل من حرص على استيفاء استحقاقاته، وهو ما يؤدي إلى تسهيل الطريق للآخرين للحصول على ما يريدون، في غفلة وتهاون ممن أؤتمن على ذلك، أي أن المسؤول قد يكون نزيهاً في ذاته، لكن إهماله وعدم حرصه يسهل للآخرين العبث بالمال العام، ويصبح هو في هذه الحالة واحداً منهم، أي أنه لا يكفي للإدانة، عند المحاسبة، أن يكون المسؤول قد تورط في أخذ المال لنفسه، ليعد مجرما، بل إن إهماله في عدم حماية هذا المال من الاعتداء يعد إجراما في حد ذاته!
في حالة جدة، رأينا جميع الإدارات التي حامت حولها الشبهات، بعد الكارثة، وبعد مباشرة لجنة التقصي والتحقيق أعمالها، وكأنها انتفضت ونهضت من سبات، وأصبح كل واحد فيها شعلة من العمل والنشاط، الكل فيها يحاول أن يسبق غيره في الحضور إلى العمل، ويبدي من الحماس ومظاهر الإخلاص ما لم يعرفه في حياته يوما، كل هذا لأن الكل أحس بالخطر، وأنه ربما يكون متهما ومرتهنا للتحقيق، وأن حماسه في هذه الفترة ربما يعكس الصورة التي أخذت عنه، ويبعده عن مظنة الاتهام، لكن هيهات، وقد أساء المذنب إلى البريء، وتلوثت سمعة النزيه بفعل المختلس، كما تلوث التفاحة الفاسدة صندوق التفاح بأكمله!.. نعم لقد تأثرت سمعة كل المسؤولين في جدة، رغم أن فيهم برآء كثيرون، لكن هذا هو جزاء السكوت، والإعراض عن التنبيه للخطر، وفضح الفساد، وقول كلمة الحق، رغم أن الكل كانت رائحة الفساد تزكم أنوفهم كل ما لامسها النسيم القادم من البحيرة الشهيرة، أو كلما ارتجّوا في سياراتهم بفعل وقوعها في إحدى الحفر التي كانت تملأ الشوارع، أو كلما وقفوا على صهريج نزح البيارة من منازلهم!
إن أمارات الإهمال والفساد كانت ماثلة في كل زاوية، ومع ذلك كان الناس منقسمين، بين مفيد، ومستفيد، وذي رأي لا يفيد! نشرت الصحف المحلية في الأسبوع الماضي خبراً لم أجد أطرف منه، تعبيراً عما أشرت إليه، من التراكض والتفاني هذه الأيام، في تحسين المظاهر، بل والحرص على توثيق الأخبار بالنشر والصور، يقول الخبر إن أمانة جدة أرسلت آلياتها لإنقاذ قطة علقت فوق شجرة، وذلك عندما استوقف طفل أحد أعضاء المجلس البلدي في الطريق، وأشار إلى قطة في أعلى الشجرة، فما كان من العضو إلا أن أخذته الحمية والشفقة فاتصل على الفور بوكيل الأمين، طالبا إرسال رافعة فاستجاب للطلب فوراً، باعتباره من عضو المجلس، وسارع إلى إرسال رافعة مخصصة للارتفاعات العالية، حيث صعد فيها عضو المجلس نفسه مع الطفل وأنقذ القطة!.. وهذا بالطبع بعد استدعاء المصورين لتوثيق المشهد بالصور!..، ثم النشر. والحقيقة أن هذا الخبر أثار لدي أكثر من تساؤل: ألم يجد حضرة عضو المجلس لديه أولى من الاهتمام بأمر القطة، واستدعاء الرافعة وانتظارها، ثم الصعود فيها؟! وهل لدى الأمانة رافعات احتياطية، مخصصة لإنقاذ الحيوانات؟! وهل سيهتم سعادة الوكيل لو أتى الطلب من مواطن؟! وهل إنقاذ القطة أهم من إنقاذ أرواح الناس التي تهددها الأخطار بفعل الإهمال من كل جانب؟!. والذين، أي الناس، ربما تعبوا وهم ينادون من ينقذهم ويرفع الأذى من طريقهم، ولكن لا مجيب!..، أم أن ما حصل لا يخرج عن سياق ما قلته، وقاله غيري سابقاً، من أن البعض يظنون أن الناس من حولهم بلهاء بحيث لا يفقهون حركات يقصد منها، عبثا، تجميل المظهر، بعد أن انكشف المخبر. ختاما أقول أين كان الكل قبل وقوع الكارثة، وقبل افتضاح الأمور، وقبل الأمر الملكي، ومجيء لجنة التقصي والتحقيق؟!، ألم يكن مطلوباً من الجميع مراعاة الأمانة، ومراقبة الذات، ولو بأداء الحد الأدنى من واجبات العمل، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، ألم يكن واجباً عليهم مخافة الخالق قبل مخافة المخلوق؟!
والله من وراء القصد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي