محاربة الفساد من ثوابت الدولة .. لا فراغا تشريعيا

يخطئ من يعتقد أن هناك فراغا تشريعيا فيما يخص معالجة مسائل الفساد فموضوع الفساد يقض مضاجع المسؤولين في كل زمن وفي مكان. ولقد صدر في حياة الملك سعود - رحمه الله - مرسوم ملكي عن محاسبة الموظفين عن مصادر ثرواتهم جدير بالتناول والنشر مرات عديدة ليكون نبراسا يهتدى به يستحق أن يثبت في كل دائرة حكومية. المرسوم بكل بساطة يترجم ''من أين لك هذا'' بشكل عملي. ويلاحظ المتأمل في ثنايا المرسوم الملكي لغة حازمة، لا تهاون فيها. ومحاربة فساد الموظفين لا تنبع من فراغ، فالصلاحية المتسعة، مع الإغراءات المتعددة، وغياب حدود المسئولية كلها تهيئ الظروف للانحراف. وكلما انخفضت احتمالية ضبط الجريمة زاد الحافز لارتكاب الجرم. ولأجل هذا تأتي الأدوات القانونية لكبح النفس الأمارة بالسوء...أدوات يجب تفعيلها بشكل علني وبشكل صارم لتحصين المجتمع من آفات الفساد وما يعقبها من كوارث. لنقرأ المرسوم الملكي كما صدر، ونتابع:
الرقم: 16 التاريخ: 7/3/1382هـ
بعونه تعالى
نحن سعود بن عبد العزيز آل سعود
ملك المملكة العربية السعودية
بعد الاطلاع على المادة التاسعة عشرة من نظام مجلس الوزراء الصادر بمرسومنا الملكي رقم 38 في 22/10/1377هـ
وبناءً على قرار مجلس الوزراء رقم 144 بتاريخ 26/2/82 وبناءً على ما عرضه علينا رئيس مجلس الوزراء
نرسم بما هو آتٍ:
أولاً – على مجلس الوزراء بناءً على مقتضيات المصلحة العامة أن يحاسب الموظفين عن مصادر ثرواتهم وثروات أولادهم القصر أو البالغين الذين لم يعرف عنهم التكسب، وثروات زوجاتهم، ويؤلف المجلس لمحاسبة الموظف من هيئة ثلاثية مكونة من رئيس ديوان المراقبة العامة رئيساً ومحققين من ديوان المظالم أعضاء ولهذه الهيئة وهي تباشر مهمتها أن تستعين بمن تشاء من خبراء حسابيين حكوميين أو غيرهم.
ثانياً – إذا عجز الموظف عن إثبات مصدر شرعي لما يملكه هو أو من ذكروا في المادة السابقة بما يثير الشك في أن اكتساب هذه الأموال كان بطريقة الرشوة أو الهدايا أو الاستغلال من نفوذ وظيفي فإن على مجلس الوزراء بناءً على توصية الهيئة المشار إليها في المادة السابقة أن يصادر نصف تلك الأموال المشكوك في مصدرها وأن يحكم عليه بالعزل من وظيفته الحكومية.
ثالثاً – لا تحول نصوص هذا النظام دون المساءلة الجنائية إذا توافرت شروطها.
رابعاً - على كل من رئيس مجلس وزرائنا ووزرائنا كل فيما يخصه تنفيذ مرسومنا هذا من تاريخ نشره.
سعود
لاحظوا أن المرسوم صادر نصف الثروات ''المشكوك'' في مصادرها، فما بالك لو تم إثبات أنها ثروة غير شرعية المصدر؟ ولاحظ أيضا أن عبء الإثبات يقع على عاتق الموظف لإثبات شرعية مصدر ثروته فهو الأدرى بمصادرها من غيره. وأخيرا، لم ينس المرسوم الملكي أن يؤكد بقاء المساءلة الجنائية فيما لو توافرت ضوابطها. مرسوم ملكي جدير بأن يتوج قاعات الدوائر الحكومية ومكاتب المسؤولين ففساد الموظف الحكومي شره مستطير ولنا في كارثة جدة أبلغ العبر والدروس، ففساد حدث منذ سنوات امتد أثره إلى اليوم ليشكل كارثة بشرية راح ضحيتها أرواح لا ذنب لهم إلا أنهم وجدوا في مكان مملوء بالأوبئة الإدارية التي لم تعالج لحظة ظهور بوادرها.
خطوات متتابعة قديمة وحديثة تدل على استشعار بخطورة المرض الذي يجب مكافحته دون هوادة وبحزم وعلى العلن فالقبض على بعض المتهمين والتحقيق معهم يجب ألا ينتهي بتقرير العقوبات عليهم وإغلاق الملفات بصمت بل يجب الإعلان عن الأسماء والعقوبات مهما كبر حجم الموظف لأن أضعف الوسائل أثرا في مكافحة الفساد هو مكافحته بسرية، بل كأنها مكافحة لم تتم لأن الحكمة في العقاب هي ردع الغير مع معاقبة الفاعل الرئيسي، فإن كان العقاب بسرية، انتفى الأثر غير المباشر للعقاب. القضية ليست الفسدة فقط، بل هي قضية مجتمع يجب أن يعرف أن مصير خيانة أمانة الخدمة العامة هو العقاب الشديد؛ إن المجتمع يتابع بكل ترقب كل قصة فساد، أولا، رغبة في استشعار هواء العدالة، وثانيا، لمعرفة هل الطريق آمن أم أنه محفوف بالمخاطر، لهذا يجب نسيان ''روح القانون'' لينعكس هذا على بقية غرف البيت الكبير.
هناك لحظات تاريخية تغير مصير الدول والمجتمعات بكل دراماتيكية، أعتقد أن كارثة جدة واحدة قد تغير مناخ العمل الحكومي وتنقله من مسار متعثر مرتبك إلى مسار واضح أكثر نظافة. الإرادة السياسية، كما تمثلت في الأمر الملكي الكريم، داعمة بلا جدال لتطهير كل الخلايا السرطانية واقتلاعها من جذورها، ولكن الأداء التنفيذي هو الفيصل، ومادام الأمير خالد الفيصل هو من يمسك بمقود لجنة التحقيق والتقصي فارفعوا سقف آمالكم عاليا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي