عالمنا مليء بالخرافات والشعوذة
نحن في هذه البلاد الطاهرة المباركة نحسب، ولا نزكي أنفسنا على الله، أننا من أكثر المتمسكين بأمور الدين الإسلامي الحنيف كما جاء به رسولنا وسيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - وهو دين الإيمان والعقل والمنطق. ومع ذلك فنكاد نجزم أننا أيضا من أكثر منْ يُصدِّق ويمارس الخرافات التي ليس لها ما يُؤيدها ويُثبت صحتها لا علمياًّ ولا دينياًّ ولا حتى منطقياًّ. نُصدق وبكل ثقة قصصا وروايات عمن يقومون بأعمال خارقة للعادة وللنظم الإلهية التي سنها ربُّ العالمين حين أوجد هذا الكون المنتظم. وهؤلاء الذين يُنسبُ إليهم فعل تلك الأعمال الخارقة، هم في الغالب من الفئات الجاهلة التي ليس لها حظ من التعليم، مثل عاملات المنازل، فكيف بهن أن يأتين بما لم يأت به أهل العلم والمعرفة؟ وزيادة في الغرابة، أن التصديق بصحة ما يُروَّجُ له من خرافات لا يقتصر فقط على ذوي المستوى الأدنى من التعليم من المواطنين، بل يشمل حملة شهادات عليا دون أن يضعوا علامة استفهام واحدة حول إمكانية حدوث مثل هذه الأعمال الخارقة التي تتطلب مهارة ومقدرة غير عادية لم يمنحها ربنا جَلَّ شأنه إلا لمن شاء من أنبيائه ورسله.
وأغلب مجالات الشعوذة المتداولة في مجتمعنا تتعلق بأمور ''السحر''، والخطورة هنا هي أن لهذه الكلمة مفعولا سلبيا بدنيا ونفسيا على منْ يُصدقون مضمونها إذا اعتقد أنه مُصاب بعلة كان سببها تعرضه للسحر من شخص ما. وأصبح من الأمور المألوفة أن يحكي لك قريبك أو صديقك بأنه تعرض للسحر بواسطة العاملة المنزلية لديهم. فعندما تكتشف العائلة وجود مخلوط غريب داخل صُرة مخبأة في مكان ما، فيجزمون أنها محاولة لإصابتهم بالسحر ويربطون مفعولها، وهي بطبيعة الحال ليس لها مفعول، بأي حدث يكون قد أصابهم. وعندما تفحص محتويات الصرة، ربما تجده يتكون من شعر الآدميين وقطع من لحوم الحشرات والزواحف ومساحيق وأوراق مرسوم عليها ما يسمونه بالطلاسم! وتحاول أن تُشغِّل نعمة التفكير والعقل والمنطق الذي وهبنا ربنا وبهم فضلنا على كثير ممن خلق، فلا تجد ما يقنعك بأن هذه الخرافات تنفع أو تضر.
ولماذا نحن فقط من بين خلق الله الذين يؤمنون بهذه الخرافات ونتقبلها كجزء من حياتنا، مع أننا ندين وبقوة بعقيدة سمحة أساسها العلم والمعرفة والمنطق السليم، وقرآننا الكريم يدعونا إلى التفكر وفهم أسرار وعظمة الكون، ثم نصبح ضعفاء خانعين أمام الممارسات الخادعة؟ ونحن نعلم اليوم تقريباً كل أنواع ومسببات الأمراض البدنية والنفسية ونعرف علاج معظمها بفضل من الله ثم بفضل ما منَّ الله به علينا من العلم التجريبي. دعونا نثبت ونبرهن على أننا خير أمة أخرجت للناس، نؤمن بقدر الله خيره وشره ونعبده جل شأنه على علم وبصيرة ونكون قدوة للخلق في حسن التفكير والاعتماد على الله، ولا نشغل أنفسنا بتوافه الأمور وخلق مشكلات من أوهام. وكثيرون منا سافروا إلى بلدان كثيرة واختلطوا بشعوبهم وتعرفوا على عاداتهم وتقاليدهم ولم يشاهدوا أحداً منهم يُؤمن بمثل هذه الطقوس ''السحرية'' المزعومة، إلا بين فئات نادرة وصغيرة من مجتمعاتهم، والنادر لا حكم له.
وليس من باب الصدف أن نجد معظم الذين يهوون الانشغال بأمور السحر على علاته دون تمييز بين ما يسحر العقول من الإبداع وحسن القول وما يسحر العيون من خِفة اليد، وبين ما هو سحر خرافي يذهب بالعقول، نجدهم يُشغلون أنفسهم أيضا بكثرة الحديث عن العين والحسد بالقدر نفسه من الاهتمام. وفي حديث لرسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه ''إن العين حق''، أو كما قال. ونحن نؤمن بما جاء في الحسد في القرآن الكريم، ولكن أن نجعل كل ما أصابنا من أذى، سواء في أبداننا وأموالنا أو في أحوالنا النفسية هو من فعل حاسد، فذلك أمر فيه قولان. والله يقول في محكم كتابه: ''قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا''، وهناك أحاديث كثيرة تذكر ما معناه أن الإنسان مُبتلى في ماله وولده وبدنه، والمؤمن مأجور على الابتلاء.
ونود أن نذكر مثالين يُبينان لنا إلى أي مدى توغل الخوف من العين في نفوسنا حتى صرنا نعتبر كل ما أصابنا من الأمراض هو من فعل العين، ونتهم في ذلك أقرب الناس إلينا من الأقارب والأصحاب والجيران. فقد كانت تُوجد في أحد البيوت بئر ماء، كما كانت عليه الحال في الزمن الماضي. فلما تم توصيل شبكات المياه الحديثة إلى المساكن، حوَّلوا تلك البئر إلى مجمع لمياه الأمطار من الأحياء المجاورة. فكانت مياه السيول تنساب من جميع الاتجاهات إلى البئر خلال مواسم المطر. فصار أهل الحارة يتوجهون إلى أهل ذلك البيت ويطلبون منهم كمية قليلة من ماء المطر المُتجمِّع في البئر من أجل شفاء مرضاهم الذين ربما يكون مرضهم من أسباب الإصابة بالعين. وذلك الاعتقاد كان مبنياً على أساس أن معظم مياه الأمطار الحارة لا بُدَّ من أنها قد لامست الأبواب ومداخل البيوت وحملت معها أجزاء من عرَق أفراد سكان الحي، الذين هم في الغالب مُتهمون في كونهم سبباً لحدوث الحسد المزعوم. أما الحالة الثانية فقد حصلت في بيت أحد جيراننا، وكان عندهم بقرة حلوب يزيد إنتاجها عن حاجتهم. وكانوا يسكبون الكمية الزائدة بدلاً من التصدق بها على الجيران المحرومين منه، خوفاً من أن تُصيبهم العين من أولئك المُحتاجين.
ربما أن الاعتقاد بإمكانية حصول أمور خارقة للعادات في حياة البشر واللهث وراء منابع الخرافات كان مقبولاً قبل قرن من الزمان، عندما لم يكن التعليم الحديث متيسرا، وكانت العلوم والمعارف الدينية عند أدنى مستوى لها. أما في وقتنا الحاضر، فقد آن الأوان لأن نكون أكثر وعياً وأفضل تصرفاً في شؤون حياتنا ونحن لدينا أصفى وأنقى عقيدة وأقدس كتاب، وهو القرآن الكريم، وأطهر سنَّة تركها لنا نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والتسليم.