معجزةُ أم معبد وتاريخ الهجرة

لا أعرف إن كان من المناسب أن أعتذر للقراء عن كتابتي خارج التخصص هذه المرة. ففي مثل هذه الأيام بدأ سجل التاريخ الإسلامي الذي سمي الهجري نسبة إلى هجرته ـ صلى الله عليه وسلم. فبعد تلك الهجرة العظيمة لم يعد التاريخ كما كان، فأصبحت الأحداث إما قبل الهجرة بكذا أو بعد الهجرة بكذا، غير أنه يجب معرفة أن هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تكن في شهر المحرم ولا علاقة لتحديد بداية السنة الهجرية (شهر المحرم) برحلته العظيمة بل كانت الهجرة في ربيع الآخر، فقد ورد في سيرة ابن هشام أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة في ربيع الأول يوم الإثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحى. فإذا كانت هذه هي الحال فلماذا تبدأ السنة الهجرية بالمحرم؟
للإجابة عن السؤال يجب أن نعود لحضور ذلك الاجتماع العظيم الذي ترأسه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو خليفة المسلمين حينئذ فقد ورد في السير أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جمع الصحابة وأوضح لهم أهمية وضع تاريخ يؤرخ به المسلمون فأخذوا في البحث عن واقعة يبدأ بها التاريخ الإسلامي فذكرت ولادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومبعثه ووفاته، ويوم هجرته، وانتهى الاجتماع التاريخي باختيار يوم هجرته ـ صلى الله عليه وسلم. ثم بحثوا موضوع الشهر الذي تبدأ به السنة فأجمعوا على المحرم كبداية للسنة الهجرية، فلماذا؟ السنة الهجرية تعتمد دورة القمر حول الأرض ومدتها تساوي 29 يوما و12 ساعة و44 دقيقة وثلاث ثوان ( 29.53 يوما)، لذلك فإن الشهر العربي 29 يوما، ولذلك فقد ورد في صحيح البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - ضرب بيده على الأخرى ثم قال : الشهر هكذا وهكذا ثم نقص في الثالثة أصبعا، (أي أنه أشار في الأولى بعشرة أصابع ثم في الثانية بعشرة أصابع فهذه عشرون ثم في الثالثة بتسعة أصابع أي تسعة وعشرين). وقد لجأ العرب قبل الإسلام إلى ما يسمى النسيء، وهو الحق في تأخير أو تسبيق بعض الأشهر المعروفة بالحرم، وهي أربعة: (ذو القعدة – ذو الحجة – المحرم – رجب) فكانوا يخلفون بين مواقيت الشهر الحرام إذا أرادوا قتالا أو سلبا بأن يزيدوا السنة عدة شهور. قال تعالى ''‏‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ'' ‏(37 التوبة) وكان إعلان النسيء عند العرب يتم بعد نهاية موسم الحج فكأنهم يحددون بذلك مواسمهم للعام المقبل، لذلك ساد اعتقاد أن نهاية ذي الحجة هو نهاية المواسم ومن ثم العام العربي والمحرم هو بدايته.
ونعود للهجرة النبوية، فقد اشتهر في كتب السيرة والحديث أنه بعد ثلاثة أيام من مسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحو المدينة نزل النبي وأصحابه بخيمة أم معبد طالبين القِرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها إلا شاة هزيلة لا تدر لبنا. فأخذ الرسول ـ صلى الله عليه سلم ـ الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله، وحلب في إناء، حتى علت الرغوة وشرب الجميع. ثم ارتحل فلما جاء زوجها ورأى اللبن قال من أين هذا؟ فذكرت له حديثها مع الرسول وهي لا تعرفه، فقال والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه .. صفيه لي يا أم معبد.
هنا يقف التاريخ بجلال وبصمت استماعا لهذه المرأة العربية البدوية الأمية وهي تصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقولها ''ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة (أي تظهر به سمنة البطن) ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف (طويل رموش العين) وفي صورته صحل وفي عنقه سطع. وفي لحيته كثاثة، أحور أكحل أزج أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار وإذا تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم وأحلاهم من قريب. حلو المنطق. لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدون، ربعة لا تقتحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به. إذا قال استمعوا لقوله. وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود. لا عابس ولا مفند). لم يذكر أهل الحديث والسير لأم معبد أثر آخر في التاريخ الإسلامي، وكان الله قد قضى بأن تقوم بهذه المهمة العظيمة للأمة ثم ينتهي دورها التاريخي. فهذه المرأة العربية لم تكن تعرفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تعرف قصته لذلك بدت في الحياد وهي تصفه فليست من أتباعه بعد ولا من أعدائه وجاءها ـ صلى الله عليه وسلم ـ طالبا القرى كأي رجل عربي آخر. ورغم الخلاف بين أصحاب الحديث حول هذه الرواية إلا أنني أراها معجزة، فهذه الأوصاف العظيمة وردت في أحاديث الصحابة بشكل منفرد، فكان بعضهم يصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بواحدة أو أكثر وفي سياق يصعب على الأمة تذكره، كما لم يُذكر وصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل هذه الدقة إلا في هذا الحديث. كما أن من الإعجاز المصاحب لهذه القصة العجيبة أن زوجها لم يكن موجودا، لذا كان لزاما عليها أن تصفه لها ولعل هذا هو السبب الذي جعلها تتأمل في رسول الله حتى تتمكن من وصفه لزوجها. فكل عام ومع بداية العام الهجري يتذكر المسلمون سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويتذكرون وصفه الذي شرحته لهم أم معبد كأنه أمامهم يقودهم كل عام في رحلته العظيمة، رحلة الإسلام الخالدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي