كيف نحلل علاقة الإعلام مع الإسلام في العصر الحديث؟

إذا نظرنا إلى الإعلام العربي، على سبيل المثال، لرأينا أن القائمين على شؤون المسلمين يستخدمونه أداة لإيصال رسالتهم. الإعلام وبأشكاله وقنواته المختلفة متاح للذين يملكون المال. والمال، كما كان منذ قديم الزمان، له دور فعّال إن في الخير أو في الشر.
والمسيحية، ولا سيما المذهب البروتستنتي منها، قد بزّت كل الأديان لا بل الأيديولوجيات في تطويع الإعلام لأغراضها المذهبية أو الدينية الخاصة. لا أعلم إن كان القراء قد شاهدوا البرامج الدينية التي تبث في الولايات المتحدة. الكرازة التلفزيونية التي يلقيها الدعاة تستحوذ على قلوب الناس وتتخللها «معجزات» التي غالبا ما تحدث في نهاية الكرازة والمشاهد المسكين يصدقها وكأن صانعها عيسى بن مريم.
وأنا أعدّ العدّة للترحال إلى جامعة كولورادو في غضون أقل من أسبوعين للتحدث في مؤتمر عالمي عن الإسلام والإعلام، راودتني فكرة طرح زبدة دراستي ونتائجها على قرائي الكرام عسى ولعل أن يمدونني ببعض الأفكار والمقترحات التي قد أستفيد منها في حديثي أو ضمنها في دراستي قبل نشرها. ودراستي هذه فكرية وفلسفية تستند في جزء منها إلى ما جاء به الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد جاك دريدا ومفكرون كبار آخرون من أمثال سامويل فيبر وطلال أسد. وفي جزء آخر تتعارض مع آرائهم.
ما يدهشني هو نظر هؤلاء المفكرين إلى الإسلام وكأنه دين مثل المسيحية أو اليهودية. دين سماوي نعم. عدا ذلك فالإسلام له خصوصياته مما يجعله مختلفا عن الأديان الأخرى. كيف؟ الإسلام آوى الأديان التي سبقته، وبعد استيعابها أو هضمهما – إن كان يحق لنا قول ذلك – وضع أسسا للحياة الدنيا والآخرة تختلف في مجملها عما لدى اليهودية أو المسيحية. وقبل أن أدخل في خضم الموضوع أسوق لكم هذا الدليل.
المسلمون يعرفون عن حياة وسلوك وأعمال وأقوال نبيهم ما لا نعرفه عن كل الأنبياء الذين أتوا قبله قاطبة. فمحمد بالنسبة للمسلمين ليس نبيا فقط. إنه سلوك وسنة وأسلوب حياة. نعرف تفاصيل دقيقة عن قيامه وقعوده، عن جلساته وحواراته، علاقاته مع الناس وعلاقاته مع زوجاته. نعرف من التفاصيل ما يمكننا أن نعيد صياغة حياته أو يومه منذ صباحه إلى مسائه. وهذا لم يمنحنا إياه أي نبي آخر. والمسلم الملتزم بدينه يريد أن يكون قريبا من نبيه ويبذل جهده أن يجعل من حياته على هذه الأرض جزءا من حياة نبيه رغم أن السلوك النبوي أو سنته مضى عليهما أكثر من 1400 سنة.
التفاصيل التي لدينا عن حياة نبي الإسلام لا تحتويها ثنايا كتاب أو كتابين أو حتى رف أو رفين في المكتبة. وإذا قارنا ذلك مع أي نبي آخر لنرى أن التفاصيل الحياتية عنه قد لا تتجاوز صفحة أو صفحتين. وقد يقول قائل ما دخل هذا في الإعلام؟ في الظاهر الإسلام يجب أن يكون أكثر الأديان مواءمة للإعلام. ولكن في الحقيقة والواقع أنه أقل الأديان مواءمة للإعلام. لماذا؟ لأن التفاصيل التي يملكها المسلم عن حياة نبيه ليست حقوقا ملكية شخصية تُعطي للآخرين حق التصرف بعد مضي فترة محددة عليها. النبي منح المسلمين حق اتباع سننه وسلوكه كأسلوب حياة ولم يمنحهم حق بيعها من خلال الإعلام وكأنها إعلانات تجارية. وهكذا لا يسمح الإسلام ولا المسلمون لأي شخص يقوم بدور نبيهم صوتا وصورة سواء أكان ذلك بالفيديو للتلفزيون أو السينما. المسيحية تقبل ذلك، ولهذا لا تستغرب عزيزي القارئ إن شاهدت برنامجا تلفزيونيا يقوم فيه الداعية «بشفاء» المرض والبرص والعميان وكأنه عيسى بن مريم ومن ثم يدعوك لشراء البرنامج أو الاشتراك في القناة التي يبث منها برنامجه ويعطي رقم الحساب المصرفي الذي ستحول المال إليه ويدعوك أيضا إلى حضور جلسة دينية سيقيمها في المدينة الفلانية كي يعيد معجزاته أمامك إن دفعت كذا مبلغ من المال.
هذا لست أنا من يقوله. قاله دريدا في عام 2002 قبل وفاته بسنتين في مؤتمر آخر عن الإعلام والدين. بيد أن دريدا فاته ما ذكرته آنفا عن التفاصيل الدقيقة التي يملكها المسلمون عن حياة نبيهم ودورها في علاقة الإسلام مع الإعلام. في الأديان الأخرى ومنها السماوية بإمكان الداعية أن يمثل نبيه وهذا ما يقوم به بالصورة والصوت دعاة مسيحيون في التلفزيون ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.
السؤال الذي يؤرقني كمختص في الاستشراق والإسلام هو إلى أي مدى بإمكان الداعية المسلم أن يذهب في استخدامه للإعلام؟ هل بإمكان الداعية المسلم أن يقلد داعية أمريكيا مسيحيا يصنع «المعجزات» في التلفزيون ومن ثم يحول برنامجه إلى شريط فيديو لبيعه وجني أرباحه شأنه شأن شريط أغان شعبية؟
والدعاة في كل الأديان غالبا ما يكوّنون لأنفسهم هيبة يستمدونها أكثر ما يستمدونها من فصاحة اللسان وليس رجاحة العقل، وإلا كيف يمكن أن نتصور داعية مسيحيا أمريكيا يذيب قلوب عشرات الآلاف من رواد مسرحه أو قاعته بما يقوم به من«معجزات» التي كانت آية عيسى بن مريم وليس غيره من الأنبياء ونحن في القرن الواحد والعشرين؟
في دراستي التي سألقيها في المؤتمر والتي أستند فيها على معطيات وبيانات أستقيها من الإعلام العربي مقارنة بالإعلام الإنجليزي أستخلص أن بعض الدعاة في الإسلام وبعض القنوات الإعلامية على وشك - إن لم تكن قد فعلت ذلك للتو - تقديم الإسلام للمتلقي بالطريقة ذاتها التي يقوم بها الداعية المسيحي البروتستنتي أو غيره - أي جعل الإسلام سلعة أو دعاية تجارية غرضها تحقيق أكبر قدر من الربح للإعلام كشركة تجارية أو أيديولوجية.
وإلى اللقاء

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي