نعم للجوامع .. لا للمآذن .. الغرب في حيرة من أمره!
الغرب عانى التزمت الديني كثيرا وتدخل الكنيسة في شؤونه. وهكذا تصور أن التزمت بنظام علماني بحت سينقذه من الويلات التي سببها له هذا التدخل وأيديولوجيات مثل النازية والشوفينية والشيوعية والرأسمالية وغيرها والتي بسببها اندلعت حروب عالمية أحرقت الملايين من البشر وهم أحياء وقتلت عشرات الملايين الآخرين.
ولكن الغرب نسي أن العلمانية جزء من الأيديولوجية. والأيديولوجية تعد جزءا من ماكينة السلطة تستخدم الإقناع والقوة لغرس أفكارها في أذهان الناس والجماهير. الإقناع غالبا ما يقوم به الإعلام بواسطة التكرار لغرس الأفكار الأيديلوجية في أذهان الناس (الجماهير) إلى أن تصبح جزءا من السليقة تتقبلها الجماهير دون تمحيص ووعي. والقوة تكمن في ماكينة الشرطة والعسكر والمخابرات والأمن وواجبهم الرئيسي هو التدخل لتصحيح المسار الأيديولوجي بالقوة والنار متى ما شعرت السلطة بأن الناس العاديين (الجماهير) لم تعد تقبل الأمور على السليقة أو البديهة.
هذا ليس خطابا ماركسيا على الإطلاق. إنه إطار نظري وفلسفي يساعدنا على فهم دور السلطة في عالم اليوم الذي تتربع على عرشه دول ذات أيديولوجيات محددة وضيقة تحاول فرضها على الآخرين إن بالإقناع أو بالقوة. وانتقل هذا المفهوم الأيديولوجي إلى الدول الأقل سطوة، ولا سيما ما يسمى العالم الثاني أو الثالث. وهكذا أصبحنا كلنا تحت رحمة السلطة وأيديولوجيتها. ولا يختلف الأمر كثيرا إن كانت السلطة ديمقراطية أم لا.
أريد في رسالة اليوم أن أستخدم هذه المقدمة الوجيزة رصيفا نظريا أحلل من خلاله القرار السويسري بمنع المسلمين من إضافة مآذن إلى الجوامع التي يبنونها أو التي هي قائمة حاليا. في سويسرا نحو نصف مليون مسلم من مجموع سكان يبلغ أكثر من 7.5 مليون نسمة. لهم ثلاث مآذن ومنعوهم من بناء المئذنة الرابعة. ولكن لهم أكثر من ثلاثين مسجدا أو مصلى وباستطاعتهم إقامة صلاة الجماعة ذات الأهمية البالغة في الإسلام في أماكن وقاعات أخرى عدا المساجد.
في السويد هناك أيضا ثلاث مآذن ولكن العشرات من المساجد والمصليات في طول البلاد وعرضها منها ما يتسع لأكثر من ألف شخص. والمسلمون أحرار في إقامة الصلاة في أي مكان آخر إن شاؤوا. ولكن هل المسألة هي نعم للجوامع ولا للمآذن؟ هل المسألة تتعلق بحرية العبادة والدين والاعتقاد والفكر التي تشكل أساس الحضارة العلمانية الأوروبية؟ أُثيرت أسئلة كثيرة عن هذا الموضوع وانتقده كثيرون حتى منظمات وأشخاص في سويسرا من ضمنها الكنيسة. وكوني واحدا من المهتمين بالعروبة والإسلام تابعت موضوع المآذن في سويسرا وأظن أن ما قيل وما كتب عنه لم يتجاوز مسألة الإدانة أو الرد المتشنج من بعض العرب والمسلمين.
إنني شخصيا لا أنظر إلى المسألة من وجهة نظر نعم أو لا للمآذن. هذا تفسير سطحي. وهذا ما تريده السلطة عندما تحاول غرس أيديولوجيتها في أذهان الناس. وعندما تكون سويسرا، لبّ العلمنة والتمدن الغربي، معنية بالأمر بهذا الشكل فلنا أن نتساءل ونحلل كعلماء وأكاديميين وليس كسياسيين منددين أو موافقين.
أخطر شيء على الإسلام في العصر الحديث هو تحويله من قبل أتباعه أو أعدائه إلى أيديولوجية بالمفهوم الذي ذكرناه في بداية مقالنا هذا. ويحزنني أن أقول إن هناك مجموعات إسلامية من حيث تدري أو لا تدري تنظر إلى إسلامها من وجهة نظر أيديولوجية بحتة. وهذه هي بالضبط الرسالة التي أراد معارضو المآذن في سويسرا توجيهها للغرب ومفادها أن الإسلام أيديولوجية شأنها شأن الأيديولوجيات الأخرى وما المآذن إلا واجهة يحاول المسلمون بواسطتها جعل الإسلام بديهية على الجميع قبولها رغم أنفهم إن بالإقناع أو بالقوة. وإذا كانوا قد حاربوا الكنيسة وقاوموا أيديولوجيتها لدرجة عدم السماح للمدارس تعليق الصلبان في الصفوف ومعاقبة من يفعل ذلك فلماذا لا يفعلون الشيء ذاته مع دين غريب عن بيئتهم؟
الأديان تتقهقر اليوم عدا الإسلام. والإسلام، كما أفهمه، سلوك ومسار يجب أن تنيره في ظلمات عالم اليوم مبادئه الأساسية مثل الصدق والأمانة والإخلاص والمحبة والإخاء والتسامح وقبول الآخر. ألم يأخذ التجار المسلمون بألباب شعوب جنوب شرق آسيا التي دخلت الإسلام أفواجا لما رأته فيهم من الصفات التي ذكرناها وكلها لا شأن لها بالأيديولوجية؟ القرار السويسري أراد أن يظهر أن الإسلام ليس سلوكا وأن دربه لا تنيره الصفات الحميدة. ما كان يتمناه أصحاب قرار منع المآذن هو ردة فعل عنيفة من المسلمين في أوروبا وردة أكثر عنفا ضد الأقليات غير المسلمة التي تعيش في دول ذات غالبية إسلامية. الأيديولوجيات تستخدم العنف غير المبرر والاضطهاد الوحشي للآخرين – وتاريخ أوروبا شاهد على ذلك. وكوني متشبعا بالحضارة العربية الإسلامية فإنني سعيد جدا لردة فعل المسلمين في أوروبا لأنهم برهنوا أنهم ليسوا أيديولوجيين كما يتصور البعض بل أناس مسامحون وأن المأذنة إن وجدت أم لا فلا تغير في الأمر شيئا لأن الإسلام في القلب والمئذنة طراز معماري فقط.
كم أتمنى أن يفعل المسلمون ما بوسعهم للبرهنة على أن دينهم ليس أيديولوجية وأخص بالذكر بعض المسلمين من العرب من الذين جعلوا تدينهم مطية لتحقيق أيديولوجيات، الإسلام الحقيقي بريء منها كل البراءة. الأيديولوجية تقتل الآخرين وتفتك بهم إن لم تفلح في غسل أدمغتهم. الدين السماوي يؤوي الآخرين ويشرح ويفتح قلوبهم.
وإلى اللقاء.