بعد دبي هناك أزمة قانونية قادمة عندنا في بلادنا

نظام الإجارة المنتهية بالتمليك في السيارات نظام تمويلي لشراء السيارات، ابتكرته العقلية القانونية والتسويقية الغربية, فهي مجدية وعادلة عندهم من الناحية القانونية، حيث إن احتفاظ البائع بملكية السيارة يسهل عليه استردادها في حالة تعثر المشتري عن السداد دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية الطويلة والمكلفة التي يجب اتباعها في حالة رهن السيارة بعد انتقال ملكيتها إلى المشتري. وهي كذلك مجدية من الناحية التسويقية، فاسم الإجارة يُحدث عند الزبون تقبلا لدفع القسط الشهري لأنه غالبا ما يقارنه بسعر استئجار السيارة من شركات تأجير السيارات, الذي يكون أعلى بكثير من القسط الشهري لنظام الإجارة للسيارة المنتهي بالتمليك، (وهذا التضليل التسويقي التمويلي قد استغله تجار السيارات عندنا فرفعوا سعر الفائدة إلى 18 في المائة). وفي هذه الوقفة المختصرة لنظام الإجارة المنتهية بالتمليك تمهيد كاف لموضوع مقال اليوم.
قدم بعض بنوكنا المحلية نظام تأجير المنازل المنتهي بالتمليك كحل لتمويل المنازل, مطورين بذلك هذا النظام الغربي المستخدم أصلا لتمويل السيارات. والغرب لم يدع وسيلة ابتكارية في تمويل المنازل إلا لجأوا إليها لكنهم لم يستخدموا هذا النظام في المنازل كما استخدموه في السيارات لعدم إمكانية تطبيقه إذا كانت ملكية البنك للمنزل حقيقية، (والغرب يعتمد حقائق معاني الألفاظ). فالسيارة تتناقص قيمتها مع الأيام وتمويلها تمويل قصير الأجل فلن تنشأ هناك مشكلة لو أرجع المستأجر السيارة لأنها ستباع في الحراج بقيمتها المتبقية غالبا. والقانون عند الغرب ـ كما هو القضاء الشرعي عندنا - لا يلزم المستأجر بشراء السيارة. وأما المنازل فتمويلاتها تمويلات طويلة الأجل وقيمتها على المدى الطويل غالبا ما تزداد وتتضاعف أضعافا عديدة, وأما في المدى القصير فأسعارها عرضة للطفرات أو الانهيارات. في كلا الحالين سواء في طول المدة أو قصرها فإن هناك عدم انضباطية في حالة تملك البنك المنزل إلا عن طريق المشاركة الحقيقية وغير الممكنة عن طريق سداد جزء من القيمة شهريا. لذا فالبنوك هناك تقوم بها حقيقة باستخدام طريقة أخرى واقعية تسمى الرهن العقاري بالمشاركة Shared Appreciation Mortgages SAMs، وقد شرحته في مقال سابق.
ومن الخطأ الذي يسيطر على طريقة التفكير عندنا هو الحكم على المستقبل بنظرة الأمس, فالذي يظهر لي أن المبتكرين لهذه الأنواع من عقود التمويلات عندنا قاسوا المستقبل الاقتصادي لبلادنا على الأحوال الاقتصادية التي مرت بها المملكة في الـ 30 عاما الماضية، وهذا قياس مع الفارق, فمنذ عام 1978 تقريبا لم تشهد المملكة تضخما في الأسعار. وذلك لأسباب عدة ليس هذا محل تفصيلها، ولكن يمكن تقسيم العقود الثلاثة هذه مقاربة وعلى عجالة إلى قسمين. القسم الأول ثبات الأسعار أو انكماشها في العقد الأول كنتيجة تصحيحية لتضخم الأسعار الهائل الذي صاحب السنوات الثلاث الأولى بعد طفرة النفط ( شبيه بوضع اليابان). والقسم الثاني هو انكماش الأسعار أو ثباتها في العقدين اللذين يليان الأول, فذلك يُعزى إلى توقف النمو الاقتصادي عندنا في بلادنا أو تناقصه بالاستهلاك. ولكن هذه الحقبة من تاريخ السعودية الاقتصادي لن تتكرر - بإذن الله-, فالبلاد ستشهد نموا اقتصاديا سنويا متدرجا خارج قطاع النفط - تشهد له أمور كثيرة ليس هذا محل تفصيلها. هذا النمو سيحفزه جانب ازدياد الطلب الكلي الذي هو سبب حتمي لارتفاع الأسعار، فلولا ارتفاع الأسعار لما أنتج المنتجون.
وقد صورت المسألة في رسم بياني من أجل تقريب فهم الأزمة القانونية القادمة عندنا بسبب نظام تأجير المنازل المنتهي بالتمليك سواء بدفعة أخيرة أو دون دفعة أخيرة. الرسم البياني يوضح معدل الأسعار في الولايات المتحدة (باللون الأحمر), الذي يوضح استمرارا متواصلا في ارتفاع معدل الأسعار العام، (وكذا معظم دول العالم المتحضرة بل منها ما هو أشد, وإنما أتيت بأمريكا لعلاقة اقتصادنا بها). الرسم البياني يوضح أن سلة من المشتريات كانت تُشترى في أمريكا بقيمة 41 دولارا أمريكيا عام 1971 قد أصبحت تكلف 210 دولارات عام 2007. والمنازل تشكل 40 في المائة من وزن مؤشر الأسعار عندهم. وأما عندنا في السعودية فالأسعار خلال 30 عاما الماضية لم تتغير, بل تناقصت في بعض الأعوام نتيجة توقف النمو أو تراجعه، وهذا ما لبس على كثير من تصور بعض المشتغلين بمثل هذه المسائل. فالرسم البياني يوضح أن قيمة سلة من المشتريات عام 1982 كانت تساوي 96 ريالا ثم أصبحت تساوي 86 ريالا عام 1987 ثم عادت إلى 96 ريالا عام 1994, أي بعد 12 عاما. وهذه مرحلة لن تعود على بلادنا - بإذن الله - لو افترضنا متوسط معدل 3 في المائة تضخما سنويا على الأقل - وهو معدل مثالي لتحقيق نمو متواصل معقول - فالأسعار ستتضاعف خلال هذه المدة, وستنشأ عندنا مشكلة حقيقية, فالبيت الذي قُيم بمليون ريال دفع زيد خلال مدة التمويل أقساطا شهرية مجموع قيمتها 1.6 مليون ريال, منها مليون ريال قيمة الإجارة (الفائدة) والباقي سدد فيه جزءا من أصل قيمة البيت ويبلغ 600 ألف ريال ويريد شراء المنزل بدفع 400 ألف, وهي باقي القيمة الاسمية التي حُددت من قبل 20 عاما (مليون ريال أصل قيمة التمويل). فهل سيرضى البنك الذي يملك 40 في المائة من المنزل بأن يبيع زيدا منزلا قيمته مليونا ريال بـ 400 ألف فقط؟ ومع ذلك فهذا الحساب فيه تجاوز عن غبن عظيم يشرحه ما سيأتي.
كما هو معروف أن الفائدة تؤخذ على ما تبقى في الذمة من رأس المال مهما اختلفت الأسماء الشرعية أو التسويقية. فلو استأجر مواطن منزلا من البنك دون دفعة أخيرة لأي مدة تمويل (كما تفعله بعض البنوك عندنا) فهو لن يسدد من قيمة المنزل إلا أقل من ثلثه بعد مضي نصف المدة لأن معظم القسط الشهري في النصف الأول من المدة ينصرف على تسديد قيمة الفائدة (الإجارة) على قيمة التمويل. فلو أراد عبد الله التسديد بالكامل بعد نصف المدة وقد تضاعفت الأسعار - وهو الغالب- أو أراد الخروج من عقد الشراء بعد انهيار أسعار المنازل بعد انفجار طفرة سعرية للمنازل فبأي سعر؟ أو لنفترض أنه لم يفعل ولكن المنازل تضاعف سعرها وهو يشتري جزءا من منزله شهريا ضمن قسط الإيجار .. فما العمل؟ فإن لم يزد عليه البنك الدفعة الشهرية التي من ضمنها جزء من قيمة المنزل فملكية البنك للمنزل إذن ملكية وهمية كملكية الصكوك. (وتغير الإجارة كل عامين أو ثباتها لا علاقة له بقيمة المنزل بل معدل الفائدة العام) لذا فقضاؤنا الشرعي سيحكم لمصلحة البنك في الغالب - القضاة الآن لا يلزمون مشتري السيارة بهذا النظام بأن يشتري السيارة عند انتهاء المدة لفتوى هيئة كبار العلماء التي لم تجز نظام التأجير المنتهي بالتمليك للسيارات بعلل عدة منها الغبن والظلم- وكذلك فعلت المجمعات الفقهية ومن أجاز منها هذه المعاملة اشترط الخيار عند حلول وقت الشراء. الذي أعرفه عن الهيئة الشرعية الموقرة في أحد البنوك المحلية التي اعتمدت هذا النوع من التمويل أنها تقصد ملكية حقيقية لا وهمية، وتجنب الدفعة الأخيرة ليس حلا لتجنب هذا الخيار الذي اشترطته المجمعات الفقهية لأن أصل معظم قيمة المنزل لا تسدد إلا في الثلث الأخير من مدة التمويل وتكون القيمة قد تغيرت مع طول المدة. والمعاملات تحرم إذا داخلها أحد ثلاثة أمور: الغبن أو الغرر أو الظلم، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذه معاملة لا تخلو من هذه الأمور الثلاثة ولن أخوض في الحكم الشرعي لهذا البيع المنتهي بالتأجير فقد قتله العلماء بحثا، فقضيتي هنا هي الناحية القانونية بنظرة اقتصادية والبنك مغبون هنا والخيار له فالحكم له. فإما أن يرفع البنك القسط الشهري ليوافق قيمة المنزل بسعره الحالي, وإما أن يتنازل عنها مع فوائدها مغبونا، ومال البنك أموال المسلمين، والمتمول التقي لا يرضى بأن يغبن الناس، وليس بذنبه ولكن ذنب من وضع العقد بهذه الصورة الضبابية وغير المنضبطة وإلا للجأ المواطن إلى تمويل بأسلوب آخر. هذا إذا كانت الملكية حقيقية، وأما إن كان المقصود بملكية البنك للمنزل بملكية وهمية فهذا التمويل في حقيقته تمويل تقليدي. وفي كلا الحالين هذه الضبابية في العقود تعد جرائم اقتصادية، وإن كانت غير مقصودة.
هذا الخلط والعجن لمقاصد الألفاظ ومعانيها والتمويه في العقود التمويلية وما فيها من تجاوزات عن أمور اقتصادية جوهرية لن يبني نظاما اقتصاديا قويا قائما على أسس قانونية واضحة ما يجعل بلادنا تدور في حلقة مفرغة مع الاجتهادات الفردية واستمرار الضبابية عند الناس في معرفة ما لهم من حقوق وما عليهم. وسيخلق مشكلات قانونية مستقبلية عندنا, وغبن وظلم وغرر تقع على البنك إذا ارتفعت الأسعار على المدى الطويل أو على المواطن في حالة انخفاضها في المدى القصير. وقد أمر الله بالعدل مع الطرفين فقال ''يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي