الميزانية .. مبادرات مبتكرة

في مثل هذه الأيام من كل عام تترقب الأوساط المالية والاقتصادية صدور الميزانية العامة للدولة، و ما تحمله من أرقام عن حجم المبالغ المعتمدة ولا سيما تكاليف البرامج والمشروعات الجديدة والسيولة المتاحة للصرف عليها خلال السنة المقبلة، إذ يمكن للمحللين استنباط الشيء الكثير من قراءة تلك الأرقام, وإن كان معظم التوقعات تشير إلى أن المملكة ستستمر في تخصيص جزء كبير من مواردها للإنفاق على التعليم، والخدمات من صحة وماء وكهرباء، وقد تشهد الميزانية قفزة في مخصصات شبكات الصرف الصحي وتصريف السيول والأمطار إثر «فاجعة الأربعاء» في محافظة جدة. واللافت هنا أن ذلك الترقب لم يعد مقصورا على الساحة المحلية، بل أصبحت ميزانية المملكة وخططها محل اهتمام كثير من المؤسسات الإقليمية والدولية الرسمية والخاصة، والشاهد على ذلك حجم ما تحظى به تحركات المملكة المالية في الآونة الأخيرة من متابعة وتحليل من قبل تلك المؤسسات والحيز الذي تحتله أخبارها في التقارير التي تصدر عن المصارف وبيوت الاستثمار المرموقة.
هناك أسباب عدة لذلك الاهتمام العالمي بميزانية المملكة وسياساتها المالية، من بينها الاحتياطات النقدية الضخمة التي تملكها في الأسواق الخارجية، تربعها على أكبر مخزون للنفط، ومعدلات نمو عالية في زيادة السكان وما يتطلبه ذلك من توسع في الإنفاق المحلي لتوفير مستوى مناسب من الخدمات وفرص عمل جديدة. و قد أسهم في تعزيز تلك المكانة للمملكة خطواتها المعتدلة التي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, والشفافية التي شرعت وزارة المالية في ممارستها منذ سنوات بإتاحة الفرصة لمؤسسات التصنيف وغيرها للاطلاع على كل ما هنالك من بيانات ومعلومات.
لكن على رغم ما أحرزته الوزارة من إنجازات في الإشراف على المال العام وإدارته على مدى سنوات طويلة في العسر واليسر وتجنيبه المخاطر، وما حققته تلك الإدارة المتحفظة من فوائض واستثمارات في بنية تحتية وقاعدة صناعية لا يستهان بهما، ما زال هناك من يلقي بالمسؤولية على وزارة المالية في تعثر بعض المشاريع وعجز الخدمات، انتشار البطالة، وغيرها. وأحسب أن تلك الأطروحات، مهما كانت خافتة أو غير عادلة، فإنها تلقي بظلالها على الصورة التي تطمح الوزارة في أن يحتفظ بها الآخرون عنها، ما يدعو إلى تبني عمل مؤسسي عبر أدوات الميزانية العامة يعالج كثيرا من تلك الانتقادات على نحو تطمئن لمصداقيته كل الأطراف.
لنأخذ على سبيل المثال الشكوى من تعثر بعض المشروعات وعجز الخدمات، إذ عادة ما يستند أصحاب تلك الشكوى إلى عدم رصد الاعتماد المطلوب أو أن ما يرصد لا يكفي لترسية العقد، ما يجعل الموضوع برمته معلقا ويبقى مُرحلاً من عام إلى آخر. إلا أن وزارة المالية كثيراً ما تفاجئ الرأي العام بأرقام على نقيض تام لكل ما ورد في تلك الشكاوى. لذلك قد ترى الوزارة المبادرة إلى عمل مؤسسي في معالجة تلك الفئة من الانتقادات بإنشاء موقع إلكتروني مرتبط بموقعها تسجل فيه المبالغ المعتمدة بالتفصيل لمشروعات كل جهة على حدة بما في ذلك تاريخ الاعتماد، مجموع المنصرف، وغيرها من بيانات تساعد الجمهور على معرفة المسؤول الحقيقي عما قد يكون هناك من تقصير.
أما الفئة الأخرى من الانتقادات التي كثيرا ما تطرح كأعذار للمشكلات التي تواجهها الإدارات الحكومية مع المقاولين فهي تنصب على نظام المنافسات، وما ينص عليه بأن تكون الترسية على أقل الأسعار ما يفتح الباب, حسب زعمهم، أمام كل من هب ودب لتوقيع ما شاء من العقود دون الوفاء بالتزاماته, ومن ثم ترى مشروعا معطلا هنا وآخر هناك وهكذا. لكن حقيقة الأمر ليست كذلك! إذ إن أساس المشكلة مرده عدم تقيد بعض الجهات الحكومية بالنص المحوري في النظام وهو أن المنافسة يجب أن تكون بين الشركات المؤهلة فحسب. إذ لو تقيدت تلك الجهات بذلك الشرط لقضي على قدر كبير من الخلل في تنفيذ العقود الحكومية. وهنا نرى دورا لوزارة المالية بحسبانها الجهة المسؤولة عن مراجعة العقود قبل إبرامها, فيا حبذا لو أضيف لمهام المراجعة بند يقضي بالتأكد من مؤهلات وخبرات المقاول وإلا تعاد المستندات إلى مصدرها لطرحها مرة أخرى بعد التقيد بما يشترطه النظام بعدم السماح لغير المؤهلين بالدخول في المنافسة.
وفي سياق الميزانية أيضا وآليات تنفيذها يبرز بقوة ملف البطالة وشح الوظائف للمواطنين، سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص. وهنا نتطلع لمبادرة من وزارة المالية بتفعيل عقود التشغيل والصيانة لتوفير أعداد كبيرة من الوظائف للشباب برواتب جيدة، إذ إن نظام المنافسات الجديد، على نقيض سابقه، يجيز إبرام تلك العقود لفترات طويلة يمكن أن تصل إلى عشر سنوات، ما يحقق استقرارا مهنيا لأولئك الشباب وهو ما تفتقر إليه العقود الجارية. ومن ثم قد يستحسن وزير المالية التصدي لمشكلة التوظيف في عقود التشغيل الحكومية، بالتنسيق مع وزارة العمل بالطبع، وذلك باختيار حزمة من العقود ذات القيم العالية وتحديد أجور عمالتها مسبقا على نحو مجز للمواطنين قبل طرحها في منافسة، أي بمعنى آخر لا ينبغي أن تكون الأجور عنصرا للمناقصة.
إننا نتطلع لمبادرات مبتكرة في إدارة اعتمادات الميزانية الجديدة، ونحسب أن وزارة المالية قادرة على تبني تلك المبادرات, إذ لديها المال وقيادة لا تنقصها الطموحات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي