التملك في الأودية إحياءً وإقطاعاً
من المقرر فقهاً ونظاماً أن إحياء الموات أحدُ طريقي التملك, ويُقصد به: أن يقوم شخص بإحياء أرضٍ ليست مملوكةً لأحد ومنفكةً عن الاختصاص، ويحييها بالزرع أو البناء أو بما يعدُ إحياءً عرفاً ومن ثَمّ فإنه يتملكها بذلك بعد توافر الاشتراطات الأخرى التي ذكرها الفقهاء لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتةً فهي له», وبالتأمل فيما ذكره الفقهاء من اشتراطات بهذا الخصوص نجد أنهم يمنعون من إحياء الأرض وتملكها في عدد من الحالات, ومن هذه الحالات: ما إذا كانت الأرض قريبةً من العامر – هذه عبارة الفقهاء, وهي تشابه ما يعبر عنه النظام بـ: «النطاق العمراني», وتتعلق بمصالح الناس مثل: الطرق ومجتمع ناديه - هذه عبارة الفقهاء, ويمكن أن تشمل المنشآت التي تقام خارج القرية أو المدينة ويكون فيها منفعة لأهلها كأراضي المعارض والمنتزهات ونحوها , ومسيل مياهه ومحتطبه وحريم النهر – وهي المناطق القريبة منه - ومرعى بهائمه وغيرها مما فيه منفعة لكافة الناس, فهذه يُمنع إحياؤها وتملكها, وكذلك: منع الفقهاء تملك المعادن الظاهرة, وإحياء موات الحرم وعرفات, وفي كل ما سبق كانوا يعللون المنع بأن فيه تضييقاً على المسلمين وإضراراً بهم.
وبخصوص التملك في الأودية تحديداً والبناء فيها فقد وردت نصوص صريحة بالمنع منه, ومن ذلك ما ورد عن رئيس القضاة في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم - وهو مرجع فقهي ونظامي للقضاة - فقد جاء في الفتاوى ما نصه: «.. جزائر البحر وجزائر الأنهار، ومنه الأودية الكبار، وكذلك منافي الأودية التي كان يجري فيها الوادي ثم مال إلى جانب آخر فلا تملك بالإحياء بالبناء فيه، فإن الأبنية تَشغل المساحة.. فإذا رجع إليها ووجدها مشغولةً بما يمنع الجريان ذهب إلى الجانب الآخر فدمر عليهم، فإن من طبيعة الأودية والأنهار أنها تارة تنتحي إلى هذه الجهة، وتارة إلى هذه بخلاف الزرع ونحوه كالبرسيم مما لا يسد المجرى ولا يجعل الماء يميل إلى الجانب الآخر», وقال :«.. ونفيدكم أنه لا مانع من عمل ما يلزم عمله لمجرى السيل بما لا يغيره عن مجاريه أو يحدث منه ضرر على أحد المستحقين», وقال:«..وبتأمل ما ذكر ظهر أن مثل هذه الفلوات التي وصفها حاكم القضية بأنها أراضي بيضاء ـ جبال، وأودية، وشعاب، وفيها منازل أصحاب المواشي التي ترعى في تلك الأرض ـ لا يصح تملكُها بمجرد التسمي عليها والتحجر، وإنما هي فلوات غير مملوكة».
وفي إجراءات حجج الاستحكام قرر النظام أنه لا بد أن يقف القاضي أو من ينيبه على الموقع, وقد ورد في اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية الفقرة 257/3 ما نصه :» عند وقوف القاضي أو من ينيبه على العقار يعد محضراً يوقعه مع الحاضرين معه، يبين فيه حال العقار من حيث حدوده، وأطواله، ومساحته، وعرض الشوارع المحيطة به، ونوع الإحياء إن وجد، أو أثره، وعدم تداخله مع الأودية والمرافق العامة والغابات والسواحل، ويُدوّن ذلك في حجة الاستحكام» , وهي صريحة بمنع الإحياء في الأودية وضرورة تركها على طبيعتها لما في ذلك من مصلحة ظاهرة.
والطريق الثاني من طرق التملك فقها ونظاما: هو الإقطاع - ويسمى نظاما :»المنح» – و من القواعد التي قررها الفقهاء في باب الإقطاع أنه :»لا يجوز للإمام إقطاع ما لا يجوز إحياؤه», كما هو نصها في «كشاف القناع» للبهوتي, فلا يجوز إقطاع بطون الأودية ولا ما هو من منافع البلد أو فيه تضييقٌ على عامة الناس.
ومن خلال ما سبق يظهر جانبٌ من إشراقات الفقه الإسلامي وسعيُه إلى تحقيق الحياة الكريمة للناس واحترام عوائدهم والتوسيع عليهم, والفقه - وتبعه النظام – يحترم الملكيات الخاصة إلا أنه يُراعي ألا تُهدّد ولا تُؤثّر في المصالح العامة وإلا فإنها تُقدم, وهذه هي المعادلة الشرعية المحققة للعدل، فمصلحة الجماعة تُقدم على المصلحة الشخصية, وقرر الفقهاء هذه القاعدة في كثير من أبواب الفقهاء.
ومما يتعلق بموضوع الإحياء وشروطه مما له ارتباط بفكرة المقالة, فعندما نتحدث عن شروط الإحياء وما يراه الفقه من مراعاة ما ينفع عامة الناس ومنع ما يُضيق عليهم فإن الفقهاء تحدثوا عن مدى اشتراط موافقة ولي الأمر في الإحياء, أو أن لكل أحدٍ أن يُحييَ ما شاء متى شاء, فبعض الفقهاء وهو مذهب الحنابلة لا يشترطون إذن الإمام في الإحياء, وهناك من الفقهاء من اشترط إذنه وهو قول الحنفية, وهو الصحيح ولا تستقيم أمور الناس إلا به, وقد كان الإحياءُ جائزاً قبل عام 1387هـ ثم مُنع, وبهذا فلا يمكن أن يقوم أحدٌ بإحياء شيء من الأراضي ويُطالب بتملكها, وما تنظره المحاكم يُفترض أن يكون في طلباتِ تملكٍ لأراضٍ تم إحياؤها قبل هذا التاريخ, وقد كانت هذه المسألة حاضرة في نقاشاتِ وكتابات القضاة في وقت الشيخ محمد بن إبراهيم, فقد ورد في فتاواه الإشارة إلى ثلاثة أقوال في هذه المسألة, ففي أكثر من موضع يُقرّرّ عدمَ الاشتراط عملا بالمذهب, وفي بعضها يرى اشتراط إذن ولي الأمر في إحياء ما كان قريبا من العامر وعلل ذلك بقوله :».. حيث يُخشى من النزاع والتعدي على ممتلكات الغير ومختصاتهم من طرق وسيول ونحو ذلك», إلا أن من آخر تقريراته في هذه المسألة ما ورد في خطابه لرئيس محكمة نجران بتاريخ 7/8/1385هـ حيث قال :»... ونفيدكم أن من لازم الإحياء انفكاكه عن الاختصاص، ولا شك أن منع ولي الأمر إحياءها معناه اختصاصه بها لما يعود على المسلمين بالمصلحة العامة, وعليه فالإحياء على هذه الصورة غير صحيح «, وهو ظاهر في اشتراط الإذن بتعليل فقهي متين اعتبر المنع نوعا من أنواع الاختصاص, وبموجبه لا تكون الأرض مواتاً فلا يجوز إحياؤها .
ولا بد من القول إن المسائل المتعلقة بشؤون الناس ومصالحهم لا يصح أن نحتكم فيها لنصوص الفقهاء التي أخذوا فيها بمعطياتِ وقتهم - مما رأوا أنه يُحقق مصالح عامة الناس في ذلك الوقت - في حالِ كانت هذه المعطيات مختلفةً عنها في عصرنا, ونغفلُ عن القواعد الكلية والمقاصد الشرعية الحاكمةِ لما يجوز وما لا يجوز من الأفعال والتصرفات, وبالذات ما إذا كان الأمر بمثلِ خطورةِ تملك الأراضي كونه يرتبط بجوانب أساسية في الحياة وتشكل عنصرا مهما في استراتيجيات الدول وبرامجها, من توفير المساكن وحسن التخطيط وعدالة التوزيع، الأمر الذي يُحتم أن يتم التعامل مع الموضوع بفقه ووعي وعدالة تضمن الوصول إلى المأمول من هذه التنظيمات سواء في موضوع الإحياء أو الإقطاع.