بين جدة.. والجامعة.. وكاترينا..قصة الإيجابية مرة أخرى (2)

كنا نتحدث في المقال السابق عن الاستجابة الإيجابية للأحداث المؤلمة في حياتنا، ومحاولة تحويل المآسي والمصائب إلى قوة دافعة إلى التقدم وتصحيح الأخطاء.
أريد اليوم أن أذكركم على عجل شديد بنموذجين اثنين، أحدهما محلي والآخر عالمي. النموذج المحلي (وهو مما له علاقة بعملي في الجامعة) هو نموذج الأخبار التي أعلنت قبل سنوات عن الوضع المزري لبعض جامعاتنا السعودية في التصنيفات العالمية للجامعات والتي كانت بحق مخجلة وفاجعة استيقظ على ألمها المجتمع بأسره وتناولها الإعلام بكل شفافية وصراحة. كانت هذه الحقيقة المؤلمة وهي أن جامعاتنا التي طالما افتخرنا بها والتي أنفقت عليها الدولة بلايين الريالات والتي ابتعث من أجلها آلاف الأساتذة، هي في ذيول تلك القوائم. وبغض النظر عن دقة دلالات هذه القوائم وعن أهمية هذه التصنيفات وعن أولوية أو أهمية متابعتها أو الاكتراث بها، فقد تعاملت بعض الأقلام والشخصيات مع الحدث بسلبية أفقدت كل منسوبي هذه الجامعات الثقة بجامعاتهم وشككت في قدرة هذه الجامعات على النهوض من جديد بل قطعت الأمل في أي إمكانية تغيير وحضت الدولة على قطع الأمل في التعليم العام والاستثمار في التعليم العالي الخاص فقط . بينما تعاملت العديد من الجامعات ، بل تعاملت الدولة بشكل عام مع الموضوع على أنه مؤشر خطير يستدعي تدخلا سريعا وتكثيفا للجهود وتغييرات استراتيجية عاجلة، وتم استقطاب قيادات متميزة تتفجر إيجابية وحيوية وأملا في جامعة الملك سعود مثلا، وتم تجييش الطاقات المخلصة وتم رصد الميزانيات الضخمة مما أسفر عن تقدم لا تخطئه العين في كل الجامعات السعودية تقريا وفي جامعة الملك سعود بشكل أوضح. وأنا هنا لا أتحدث عن التصنيفات وإنما أتحدث عن التغييرات الحقيقية على أرض الواقع والتي كانت في السابق مثل الأحلام (مثل برامج الوقف، وكراسي البحث، ووادي الرياض للتقنية، والتغييرات الجذرية في المناهج، وإشراك الطلاب في الحراك، والنوادي الطلابية، ولجان الحقوق الطلابية، والاعتماد الأكاديمي، وبرامج التوأمة العالمية، وتطوير تقنية المعلومات، ووضع برامج الجودة، وتحسين الكادر...). ولكن أهم من كل ذلك وأعظم، هو الروح الإيجابية التي هبت على التعليم العالي في المملكة والتي يحسها كل من اقترب منها. وبالتالي، تحولت الأخبار السيئة والتصنيفات المتردية إلى طاقة إيجابية هائلة قادت التغيير وتولدت الروح الإيجابية من رحم المأساة.
المثال الآخر هو إعصار كاترينا، والذي كان الأسوأ في تاريخ أمريكا ليس فقط بسبب الكارثة الإنسانية التي حدثت وإنما بسبب ما أسفرت عنه الكارثة من أسئلة عرقية وعنصرية مخبأة فاحت رائحتها ودخل معها المجتمع الأمريكي في جدال ثقافي كبير لم يهدأ حتى الآن. ولكن كيف كان رد المجتمع الأمريكي على هذه الكارثة الكبرى بعدما أفاق من الصدمة؟ يحكي لي بعض من زار مدينة نيوأورليانز أخيرا بأنك إذا زرت تلك المدينة الآن لم تعد تشعر أنها قد غرقت قبل سنوات قلية وأنها كانت مدينة اليأس والموت والخراب. ولم تمض غير سنوات حتى انتخب الشعب الأمريكي أول رئيس أسود في تاريخه في سابقة تاريخية لها معان عميقة جدا، وقل مثل ذلك عن هيروشيما وكوريا وغيرها الكثير. القصة نفسها تتكرر الآن مع الأزمة المالية وربما تكون هي الفضيحة الأكبر في تاريخ أمريكا والتي تبين معها الفشل الذريع في قيادة العمل المالي في أمريكا والخواء الرهيب في أنظمة المراقبة، وقل مثل ذلك عن النظام الصحي المتهالك وغير العادل لديهم وغير ذلك كثير. كل هذه الأنظمة التي تبين فشلها الذريع، هل تمت مواجهتها بالعويل ولطم الخدود كما يحدث كثيرا عندنا، أم بالاعتراف بها أولا، ثم تجييش المجتمع بأسره لحلها ثانيا بهمة وإصرار وأمل في مستقبل أفضل؟
هذان مثالان مختلفان تماما في طبيعتها وبيئتهما الزمانية والمكانية على إمكانية استغلال المآسي والمشكلات التي تأخذ زخما إعلاميا في دفع عجلة التغيير والتقدم إذا أبقينا الروح الإيجابية تنبض فينا، وسيأتي اليوم الذين يرتفع فيه مستوى الوعي الذي فيه نتنبأ بالمشكلات قبل وقوعها ونحترس من المآسي قبل حلولها ونضع الآليات والأنظمة الوقائية التي لا نحتاج بعدها إلى الكوارث حتى نستيقظ.
وقد بدأت إرهاصات النتائج الإيجابية تظهر من بين أنقاض المأساة التي قطعت قلوبنا، ها هي رياح التغيير تهب بقوة على مراتع الفشل الإداري ومن أعلى سلطة في البلد وبلغة ولهجة صارمة حاسمة نرجو أن تستثمر، وها هي روح العمل التطوعي تدب بين جنبات شباب وشابات جدة حتى أن أكثر من سبعة آلاف منهم هبوا للنجدة في وقت قياسي رسموا فيها صورا مبهرة لم يتصورها البعض في شباب وشابات السعودية ، وها هي البلد كلها تجتمع على هم وطني واحد بدلا من إضاعة الطاقات في هموم صغيرة أو معارك مفتعلة.
ليس هناك مصيبة أكبر من القيامة، التي تأتي فيها قصة الحياة الدنيا إلى نهايتها الحتمية، ويفقد الأمل فيها وينقطع الرجاء منها. في هذه الأجواء، وبين ركام اليأس، يأتي التوجيه النبوي الأعجب والأحكم: «إذا قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها».
لنغرس فسيلة اليوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي