«جاك الموت يا تارك الصلاة»
بيان كالزلزال من أعلى سلطة في الدولة .. إنه من عبد الله بن عبد العزيز .. إعلان بحرب لا هوادة فيها على الفساد، وكأني أرى من ساهموا في خلق الفساد أو نشره أو المشاركة فيه أو حتى التستر عليه, ينتظرون إعلان نهايتهم أو فضيحتهم. وقد كتبت مقالاً طويلا سطرت فيه كثيرا من المعاناة حول مصاب أهلنا في مدينة جدة .. التي لا يخلو بيت فيها من معاناة سببتها سيول الثامن من ذي الحجة، من فقد قريب أو صديق أو زميل أو خسارة سيارة أو ضرر مسكن أو متجر سببته السيول ... إلخ, البقعة السوداء التي لن تنسى في تاريخ الإدارة الحكومية لمدينة جدة, ثاني أكبر مدينة في أغنى دولة عربية, وصاحبة أكبر مخزون نفطي في العالم.
بعد أن أنهيت كتابة ذلك المقال وقبل نشره فوجئت بالبيان الملكي الذي شمل القول والفعل، وأقولها حقيقة إنني فوجئت بتصريحات راعي هذه البلاد وولي أمرها, التي وضعت الأمور في نصابها، فبكل شفافية وشجاعة معهودة عنه أعلن الملك المخلص المحب لوطنه مجموعة من المبادئ نطقت بما في أنفس كثيرين حول الكارثة الإنسانية التي عمت مدينة جدة, المدينة الغالية على نفوسنا جميعاً، غالية علينا بأهلها وتاريخها وكرمها.
لقد ارتكز بيان خادم الحرمين الشريفين على عدة محاور شاملة كافية جامعة، بدءا من تحمل المسؤولية بشجاعة وصدق بخطاب للأمة وبطلب مخلص لبراءة الذمة أمام الله - عز وجل - وأمام المجتمع والمواطنين (ولا نزكي على الله أحدا)، وقد كان تعامله - وفقه الله- مع الحدث بشفافية عالية وبتفاعل هائل مع أهل الشهداء والمفقودين والمتضررين، وقد كان الغضب والألم وعدم الرضا عما حدث ظاهراً في كل كلمة وكل حرف في ذلك البيان، الذي أشار بشكل جلي إلى أن الأضرار ما كانت لتكون لو أن المسؤولين أدوا واجبهم كما يجب، واختتم البيان بإعلان الحرب ضد الفساد والتصدي للمسؤولين الذين تسببوا في الكارثة، وملاحقة المخطئين والمقصرين أياً كانوا، وقد كان من أجمل لطائف ذلك البيان حسن التعامل مع ضيوفنا من المقيمين ومساواتهم بالمواطنين، واعتبارهم جميعاً أمانة في أعناق القيادة وفي ذمتها.
حقيقة عند تأمل أمر خادم الحرمين الشريفين لم أجد ما أزيد عليه أو أزايد، فقد كان شاملاً وكافياً ووافياً، بدءا من الاعتذار وتحميل الدولة مسؤولية ما حدث وتقصي الحقائق وتوعد العابثين بمقدرات الوطن، والاعتذار للمصابين عمليا بتعويضهم التعويض المناسب.
لماذا فوجئت بالبيان؟ لست أسيء الظن بولاة الأمر، ولكن لتجاربنا الكثيرة مع الفساد, التي لا أرغب الخوض فيها، فقد ظهرت حالات كثيرة لم نكن نرى أي علاج لها فضلا عن العقاب، وفي مدينة جدة بالذات قصص الفساد أكثر من أن تذكر، وأصعب من أن تحصر (ولا تهون مناطق ومدن أخرى سيأتيها الدور إذا لم يتم تداركها قبل فوات الأوان) .
نعود إلى لجنة تقصي الحقائق التي تم تشكيلها في ذلك البيان، التي أتمنى أن تكون أعمالها محاطة بالشفافية مثلما كان البيان وقرار التشكيل لها، وأقترح على اللجنة ما يلي:
1- تحديد موعد محدد, أو على الأقل إطار زمني لإعلان النتائج المتوقعة.
2- إصدار تقارير دورية كل أسبوعين عما تم إنجازه وما تم اكتشافه, وتعلن نتائجها للملأ.
3- تعيين ناطق رسمي للجنة.
4- تحفيز المواطنين والمسؤولين على كشف أي معلومات ذات علاقة أو تقديم أي مستندات تكشف عن الفساد أو الإهمال الذي تسبب في حدوث الكارثة.
5- الإعلان عن وسائل الاتصال ومنها رقم مجاني للإبلاغ عن حالات الفساد.
السؤال الذي يثور في أذهان كثيرين .. هل فعلاً سيتم الإعلان عن المسؤولين المقصرين أو المتورطين في كارثة جدة؟ وهل ما ذكره الملك - وفقه الله - في المحاسبة والمساءلة ووصفه بـ ''كائن من كان'' سيتم فعلاً على أرض الواقع؟ حتى لو كان المتسبب أو أحد المتسببين هو فلان بن فلان أو صاحب المعالي أو السعادة أو المقاول الكبير, .. إلخ؟!
إن آمالنا بعد الله في لجنة تقصي الحقائق كبيرة وكبيرة جداً لكشف المستور لمصلحة الوطن، وأملنا أيضاً ألا ينحصر عمل اللجنة فيما يخص المسؤولين الحاليين، وإنما أن يتم كشف أي أخطاء أو فساد لأي مسؤولين سابقين، وفي ذلك عبرة للجميع بأن الملاحقة والعقوبة لن تنتهي بترك المنصب، كما نأمل أيضاً أن تتقصى اللجنة وتلاحق أي متورط في القطاع الخاص مثلهم مثل غيرهم في القطاع العام. إن مستقبل الإصلاح في وطننا معلق بنجاح اللجنة في عملها، وإعلان نتائجها، ومعاقبة المقصرين العقاب المناسب أياً كانت مناصبهم وأيا كانت أسماؤهم، وليكن نصب أعيننا قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -''والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها''.
يجب أن نتذاكر ونتواصى بأن الكارثة كانت بسبب التقصير والإهمال والفساد أولاً وآخراً، ولم تنتج عنها سرقة للمال العام فحسب، ولكن نتج عنها خسارة العشرات من أرواح المواطنين والمقيمين التي لن يعوضها أي مال، ومئات المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم بعد، وهدم آلاف المنازل وتشريد أكثر من عشرة آلاف شخص، وبلغت الخسائر المادية للحكومة والمواطنين مليارات الريالات، وستكلف الكارثة الدولة آلاف الملايين لترقيع نتائج الكارثة المادية، أما سمعة الوطن التي تلطخت فلن يعوضها شيء.
حين نتحدث عن الإهمال والتقصير والفساد فيجب ألا نغفل المواطنين المخلصين في القطاعين العام والخاص، الذين يعتبرون صمام أمان للوطن في مواقعهم، وقد أسهموا في خلق فارق إيجابي لمؤسساتهم التي قادوها أو عملوا فيها، ويعرفهم الله قبل أن تعرفهم القيادة والمواطنون، ولهم منا خالص الدعاء بالسداد والتوفيق.
ختاماً أتمنى أن تكون هذه الكارثة فتحاً لباب محاسبة المسؤولين عن حالات الأخطاء والإهمال والفساد التي تحدث في أجهزتهم الحكومية التي اؤتمنوا على إدارتها، وأن تقرع جرس الإصلاح الذي تراكم عليه الغبار، وأن تضرب يد السلطان بيدها الحديدية كل من أساء استخدام سلطته وصلاحيته في عمله، وأقول لكل هؤلاء ''جاكم الموت يا تاركي الصلاة''.