فاجعة جدة كشفت ما عجزت عنه الألسن والأقلام!
رغم ما كتب وقيل عن فاجعة جدة الأخيرة من جراء السيول التي دهمتها يوم 8 ذو الحجة, تبقى كما لو كانت من أغرب الفواجع التي نزلت بالبلدان, بسبب هول التدمير والوفيات التي سببتها, والمفارقات التي صاحبتها, رغم أنها ليست من أكبر الكوارث التي نراها ونسمع عنها, ولا ينجم عنها من الأضرار مثل ما حصل لدينا! لكن لعل الله أراد أن يكشف ما تستر عليه خلقه طوال العقود الماضية, حتى لا تكون الفاجعة أكبر لو انتظرنا عقودا أخرى من التستر والتواطؤ على من خان الأمانة, والغفلة عن المحاسبة والمواجهة والعقاب, وليسمح لي القارئ الكريم أن أتناول الموضوع من زاوية مختلفة نوعا ما عما تناوله معظم من قرأت لهم, وذلك في ضوء ما بدا لي مما اطلعت عليه أو أعرفه!
أولا: من حيث الأسباب
1 ـ لا شك أن الأضرار ستكون بحجم أقل كثيرا مما حصل لو وجدت السيول طريقها سالكا إلى البحر, كما شقته بنفسها دون تدخل البشر منذ أن خلق الله الأرض, لكن تدخل هذا البشر بسد طريقها الطبيعي الأزلي جعلها تفتح الطرق عنوة, وتدمر ما في طريقها لتعلّم البشر كيف يكون عقاب العدوان, ومن ثم فإن السبب الرئيس لما حدث يتركز في ردم الأودية ودمجها ضمن الأحياء السكنية, ومن ثم تخطيطها وبناؤها بدافع الطمع والجشع, فضلا عن أن من قام بالتخطيط, سواء كان مواطنا أو غير مواطن, وهو الغالب, لم ينظر إلى ما هو أبعد من قدميه وجيبه لتقدير حجم الأمطار والسيول, مغيبا عن ذهنه الحقيقة التي تقول إن أي واد جرى بالسيل لا بد أن يجري! وكيف له أن يعرف ونحن لا نملك مراكز لرصد كميات السيول التي تجري بها الأودية, ولا نستعين على الأقل برؤية كبار السن في المنطقة لمعرفة ذلك.
2 ـ كثير من المسؤولين, قريبي الصلة بالأسباب, سارعوا إلى إسناد الأسباب إلى أمور أبعد ما تكون عن الأسباب الحقيقية, مثل عدم وجود أو اكتمال شبكات الصرف الصحي وتصريف السيول, رغم أنهم يعلمون أنهم مسؤولون عن عدم اكتمالها, وكأن مدينة جدة من أحدث المدن, وليست أمنا حواء ترقد فيها! هذا مع يقينهم بأنه حتى لو كانت هناك شبكات مكتملة فإنها ليست لتصريف السيول التي تأتي من الجبال بالحجم الذي شوهد, بل هي لتصريف الأمطار التي تنزل على الشوارع والبيوت, أما تلك فقد أوجدت طريقها بنفسها, كما ذكرنا, لكن تبريرا كهذا قد يأتي في سياق درء التهم!
3 ـ إن انشغال السلطات والأجهزة الحكومية, من أمنية وإنمائية وحتى إعلامية, في يوم الفاجعة, وهو من أهم أيام الحج وأكثرها حركة وتنقلا, أسهم في عدم تحذير الناس, فضلا عن إسهامه في تأخر وصول المعدات والأفراد ومباشرة عمليات الإنقاذ, ما زاد في أعداد الغرقى وآثار الكارثة.
4 ـ كشفت السيول عن انهيارات وانكسارات في الطرق والأنفاق والجسور قد يكون مردها إلى عيوب وخلل في المواصفات أو الإنشاء أو الإشراف, وينبغي ألا يمر ما حصل دون مراجعة ومحاسبة.
ثانيا: من حيث المفارقات
1 ـ كشفت الفاجعة أننا في فقر شديد إلى جمعيات للتكافل الاجتماعي, فضلا عن مفهوم التكافل ذاته, رغم أنه أمر حث عليه الدين, بل أمر به, لكننا - مع الأسف - نكتفي بما نقرأ دون أن نعمل به, بل تخلينا عنه لغيرنا كمجتمعات حين نراها تنهض, وقت الكوارث, للنجدة والمساعدة والإغاثة, بل توفير المواد ودور الإيواء والإعاشة, ولا تترك العبء كله على الأجهزة الحكومية! صحيح أنه كانت هناك جهود فردية ومحاولات للإغاثة والمساعدة من أفراد لم يتمالكوا أنفسهم أمام بعض المشاهد, إلا أن يسارعوا للمساعدة, لكنها جهود خالطتها ممارسات قام بها انتهازيون ولصوص انقضوا بطريقة أخرى على المنازل وهي خالية بشكل نسف مبدأ التكافل من المجتمع.
2 ـ الملاحظ أن الدولة صارت تصرف على المشاريع مرتين, مرة لإنشائها, ومرة لإعادة بنائها بعدما تتهدم وينكشف ما تنطوي عليه من عيوب في التنفيذ, بعد وضعها في الاستخدام, أو بعد نزول الأمطار, وما حدث في جدة وغيرها من المدن يشهد بذلك, وهو ما يستنزف المال العام, ويعطل مصالح الناس ويغري, حين السكوت عنه, بالتمادي في العبث والاستهتار.
3 ـ أكاد أرى وألمس أن من الأسباب القوية لما حدث ويحدث من إهمال وتقصير وفساد, هو ما نعيشه من نفاق وبدع ومجاملة من المرؤوسين للرؤساء, أعمت بصائر هؤلاء الأخيرين عن أن يروا الأمور على حقيقتها, فالمسؤول الذي يستقبل بالمداخن وقصائد وعبارات الترحيب والذبائح, وهو ذاهب كي يتفقد فرعا أو مشروعا تابعا له لن يكون بوسعه رؤية غير ما يقدم له أو يسمع غير ما يقال عنه! فقد بلغ بنا الحال منزلة غاب فيها الصدق وكلمة الحق واختفت النصيحة الخالصة, وأوشك أن يصدق فينا ما توعد به الله تعالى المنافقين!
4 ـ يتداول الناس, بعد الفاجعة, رسالة هاتفية مفادها أن مواطنا عربيا فقد سيارته في سيول جدة, فوقف أمام أمانة جدة يلطم ويقول ''ما دام عارفين ما عندكمش تصريف سيول بتتبلّوا وتصلوا استغاثة ليه''. وبصرف النظر عن أي مغزى آخر للرسالة فإنها علامة على أننا أصبحنا مجالا للتندر والتهكم, ليس من المواطن فحسب بل حتى من المقيم! والله من وراء القصد.