علاقات الهند وميانمار .. نظرة استراتيجية
بعد مفاوضات استمرت عدة أشهر وراء الكواليس، توجه كورت كاميل، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا إلى ميانمار على رأس وفد أمريكي بتاريخ 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009. وتدل هذه الزيارة على الإجماع الذي بدأ يظهر بين الديمقراطيات الغربية بضرورة مراجعة العقوبات الاقتصادية الفاشلة وحظر إرسال الأسلحة المفروضة على ميانمار وعلى رغبة هذه الديمقراطيات في الدخول في حوار مع الجنرالات قبل أن تعقد الانتخابات في العام المقبل. وعلى صعيد آخر، من الواضح أن القصد من ذلك هو العمل تدريجياً على تقليل نفوذ الصين الطاغي في البلد. وبهدف مناقشة هذه المواضيع، تم عقد ندوة في مؤسسة بروكينجز وكلية الدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن دي سي في 29 – 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2009.
تعد الهند من اللاعبين الإقليميين الرئيسيين الذين لهم بعض التأثير في الزمرة الحاكمة في ميانمار. ومن الناحية التقليدية كانت علاقات الهند مع ميانمار، البلد البوذي، وثيقة وودية. ومن الناحية الجغرافية، تشترك الهند وميانمار في حدود برية وبحرية طويلة، بما في ذلك منطقة جزيرتي اندامان ونيكوبار ذواتي الأهمية الاستراتيجية، حيث تفصل بين الجزيرة الهندية والميانمارية مسافة لا تتجاوز 30 كيلومترا. إن موانئ ميانمار توفر للهند أقصر الطرق الموصلة إلى عدة ولايات هندية تقع في الشمال الشرقي، خاصة وأن بنجلادش لا تسمح للهند بالوصول براً إلى تلك الولايات عن طريق أراضيها.
تكمن المصلحة الوطنية للهند في أن تكون ميانمار دولة قوية ومستقرة وتلتزم بالحياد التام بين الهند والصين وتتعاون مع الهند في معركتهما المشتركة ضد حالات التمرد التي تندلع في المناطق الحدودية بين البلدين. وتعد ميانمار محطة توقف مهمة على الطريق البري الخاصة بتنفيذ سياسة الهند القائمة على التطلع شرقاً. وفي الحقيقة، فإنها تعد جسراً بين جميع البلدان الأعضاء في منظمة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (والتي تتمتع فيها ميانمار – بوضع المراقب) وفي منظمة بلدان جنوب شرق آسيا التي تعرف باسم آسيان. كما أنها عضو في مجلس التعاون الاقتصادي الذي يضم بنجلادش، والهند، وميانمار وسريلانكا وتايلاند، وفي تجمع ميكونج – جانجا الذي يهدف إلى إيجاد بيئة تمكن في تحقيق التنمية الاقتصادية السريعة.
وشهد العقد الأول من القرن الـ 21 تنامياً في الحوار بين الهند وميانمار. فقد قام كبار المسؤولين الهنود بعدة زيارات رفيعة المستوى إلى ميانمار أخيرا، من بينها الزيارة التي قام بها نائب الرئيس الهندي لها في شباط (فبراير) 2009. وانسجاماً مع سياسية الهند التي تقوم على زيادة التعاون العسكري مع جيرانها لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي، قام رئيس أركان الجيش ورئيس أركان الأسطول الهندي أيضاً بزيارة ميانمار في الأعوام الأخيرة. ويتم أيضاً عقد مشاورات منتظمة بين وزارة الخارجية الهندية ووزارة خارجية ميانمار. وقد عقدت الجولة التاسعة من هذه المشاورات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.
الدوافع الرئيسة الكامنة وراء العلاقة الاستراتيجية القائمة بين الهند وميانمار هي التعاون في مجال عمليات مواجهة التمرد وحاجة الهند إلى ضمان عدم دفع ميانمار إلى أحضان الصين من خلال عدم اهتمام الهند بمخاوف ميانمار الأمنية واحتياجاتها من الأسلحة. إن مختلف الجماعات الهندية المتمردة تعمل انطلاقاً من قواعد توجد في المناطق التي تضعف فيها سيطرة البلد عبر الحدود التي تربط بين ولايتي مانيبور ونيزورام الهنديتين والثوار الميانماريين، خاصة الذين هم من أصل صيني ومن الأرَكان الذين كثيراً ما يتخذون من الجانب الهندي ملجأ لهم. ولذلك فإن من مصلحة البلدين أن يتعاونا لمحاربة هذه الجماعات المتمردة بشكل منسق. ففي الفترة ما بين نيسان (أبريل) وأيار (مايو) 1995، وخلال عملية الطائر الذهبي Golden Brid، أسفر التعاون المشترك بين البلدين عن مقتل نحو 40 متمرداً والاستيلاء على مخبأ ضخم للأسلحة. ومنذ ذلك الوقت، يتعاون الجيشان مع بعضهما بعضا من أجل منفعتهما المتبادلة. وعلى سبيل المثال، قام جيش ميانمار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 بالإغارة على عدة قواعد للمتمردين في ولاية مانيبور ومحاصرة قرابة 200 متمرد والاستيلاء على 1500 بندقية. ويعد التعاون بين الهند وميانمار أساسيا من أجل مكافحة الاتجار بالمخدرات والحد من انتشار الأسلحة الصغيرة في المنطقة.
وكعنصر من عناصر استراتيجية الصين الرامية إلى تأخير أو حتى منع بروز الهند كقوة إقليمية منافسة لها في آسيا ومن أجل تعزيز مصالحها الاقتصادية والأمنية، بما فيها أمن الطاقة، تعمل الصين منذ زمن طويل على محاصرة الهند استراتيجياً. وكجزء من تلك السياسة، تقدمت الصين بخطى سريعة إلى ميانمار وأقامت معها علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية وثيقة.
يشار إلى أن ميانمار توفر للصين أقصر الطرق البرية المؤدية إلى خليج البنغال وإلى شمال المحيط الهندي. وقد أبرمت الصين اتفاقية طويلة الأجل مع ميانمار من أجل استغلال احتياطياتها الهيدروكربونية. وقد تم بصورة رسمية وضع الخطط الخاصة بنقل النفط والغاز عبر خط بري للأنابيب يمتد بطول 1.100 كيلومتر من ميناء Kyaukryu في ميانمار إلى مدينة رويلي Ruili الحدودية في إقليم يونان. وبعد الانتهاء من خط أنابيب النفط والغاز هذا وتفعيله سيقل اعتماد الصين على مضائق ملقا بشكل كبير. وتقوم الصين بتطوير مدينة سيتوي الساحلية في ميانمار لتكون ميناءً تجاريا على الساحل الغربي. ومن الطبيعي أن يتبع ذلك نشاط للأسطول الصيني في خليج البنغال في المستقبل القريب.
وتشكل التقارير التي تتحدث عن سعي ميانمار إلى امتلاك أسلحة نووية من كوريا الشمالية (بمساعدة صينية وباكستانية) رغم أنها لم تثبت، مبعث قلق للهند لأن وجود أسلحة نووية في أيدي نظام عسكري آخر لن يساعد على تحقيق الاستقرار في المدى الطويل في منطقة جنوب آسيا. وقد تحدثت التقارير عن وجود 800 نفق في حين من المعروف أن قدرة ميانمار على حفر الأنفاق محدودة للغاية. ولكن تجب الملاحظة أنه يجري العمل على بناء مفاعل للطاقة النووية بمساعدة روسية وقد تم إعلان ذلك للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وإذا صحت الأنباء التي تتحدث عن طموحات ميانمار النووية، فيجب على المجتمع الدولي أن يتخذ جميع التدابير اللازمة لمنع ظهور دولة نووية أخرى في المنطقة.
وبينما تشعر الهند بالقلق من التقدم البطيء في موضوع المصالحة الوطنية في ميانمار وما ينتج عنه من تأخير تنصيب حكومة منتخبة ديمقراطياً لتولي السلطة في نايبيدو، فإن السيناريو الاستراتيجي يفرض على الهند أن توازن بين مخاوفها الأمنية وبين دعمها لظهور حكم ديمقراطي. ومن خلال العلاقات الوثيقة فقط تستطيع الهند أن تعزز نفوذها لدى النظام الحاكم لدفعه برفق نحو المصالحة الوطنية. وتستطيع الهند أن تستغل قوتها الناعمة على الصعيدين الثقافي والروحي لإطلاق حوار أكثر نشاطاً بين الشعب والنظام الحاكم في ميانمار مما هو عليه الحال حتى الآن. وهناك حاجة ملحة لكي تنشئ الهند مركزاً ثقافياً في بيانجون. وهناك الكثير مما تستطيع الهند أن تفعله في مجالي الصحة والتعليم. ويجب على الهند أيضاً أن تزيد من وجودها الاقتصادي في ميانمار، وخاصة في المناطق القريبة من الهند.
إن النظام العسكري متخندق بقوة في السلطة – بالرغم من الثورة التي قام بها الرهبان في عام 2007، ولم تنجح العقوبات وغيرها من الضغوط السياسية في الماضي، ومن غير المرجح أن تنجح في المستقبل. إن ذهان الخوف لدى الزمرة العسكرية الحاكمة في ميانمار يجري استغلاله من قبل الصين، وهذا لا يمكن أن يصب في مصلحة الهند أو أي من الديمقراطيات الأخرى في العالم الحر. إن من المهم إنهاء عزلة ميانمار وتهدئة مخاوفها من أن العالم بأكمله يقف ضدها. ويمكن للهند والقوى الإقليمية الأخرى أن تلعب دوراً إيجابياً في إعادة ميانمار إلى حظيرة المجتمع الدولي لكي يتم دفعها إلى أن تصبح ديمقراطية قوية ومستقرة، وناضجة ومسؤولة وعلى استعداد للعب بموجب القواعد والتقاليد التي تحكم العلاقات الدولية. وربما كانت أفضل السبل للمضي قدماً نحو هذا الهدف هي المحادثات متعددة الأطراف بمشاركة الهند والصين، واليابان ومنظمة آسيان والبلدان الأخرى التي لها مصلحة في ذلك.