أنا شجرةٌ عجفاء لا أُثـْمِر (2-2)
.. نتابعُ رسالة قصة الزوجة التي بدأناها السبت الماضي:
«.. حين وصلنا لشقتنا الصغيرة في إحدى ضواحي ولاية «يوتاه»، جلس سعد أمامي، ثم أخذ كلتا يدَي وراح يقبلهما، وقال لي: «اكرهيني كما تشاءين، فأنا لن أنسى أنك صاحبة فضل ومنّةٍ عليّ، أنا صنيعةٌ من صنائعك، لولاك لما تيسر لي إكمال دراستي هنا، وهي أكبرُ أحلامي، وأقوى طموحاتي، وتأكدي أني سأبذل كل بقية عمري لإسعادك». ولكنه كان يخاطب كتلةً عجفاء من الخشب الأجوف من أي عاطفةٍ نبيلةٍ.. ففاجأته برفسةٍ أسالت الدماءَ من لثته.. وكأني في داخلي اشتقتُ للضرب الذي اعتدتُ عليه طيلة حياتي، وكنت أتوقع أن يضربني دفاعا عن نفسه.. إلا أنه ذهبَ وفرش سجادته وراح يصلي.. وفي داخلي تمورُ زوابعُ الغضب والكراهية، فقفزت عليه وهو راكعٌ ورحتُ أضربه وأعضّه وهو يصرخ من الألم، ثم مسك يدَيْ بكل ما أوتي من قوة، حتى انهرتُ من التعب.. ونمت. وكانت هذه أول ليلة بين زوجين حديثي الزواج. في الصباح، وكنت قد هدأتُ من النوبةِ العصبية، مع أني لا أراه كما يرى الناسُ الناسَ، وإنما أراه يداً عملاقة خشنة بلا رحمة ستهوي على صدغي وتحطمه كما فعل بي ذلك الطبيب، وكما فعل أهلي منذ عرفتُ الدنيا، أخذني سعد إلى مستشفى يبعد عشرين ميلا عن ضاحيتنا، حيث تسلمني ممرضون ضخام ملفعون بالبياض، واحتجزوني بعيدا عن سعد.. وهناك بقيتُ أربع سنوات.
«هل تركني سعد وتخلص مني أخيرا؟» هذا ما كنت أفكر فيه وأنا محجوزة في غرفةٍ بيضاء فيها سرير بأغطية نظيفةٍ، وحمّامٌ لصيقٌ ناصع البياض.. وكنت أود أن أمزق كل شيءٍ حولي، ولم أجد إلا لحمي، على أن محاولاتي راحتْ هباءً عندما وعيت علي يدَيْ المربوطتين بوثاقٍ قوي مغطى بطبقةٍ أسفنجيةٍ حتى لا تُدمي معصمَي.
على أن سعد جاء يزورني عندما أخرجوني للقاء طبيبي المعالج، وكان يرتعد، وعلى وجهه علامات فزع حقيقي وخوف، وقال لي مرة أخرى: «عاهدتك بأني سأبقى معك إلى الأبد، ولو تطلب الأمرُ أن أسكن معك هنا..»، فبصقتُ في وجهه. مسح وجهه وهو يكرر: «حتى لو سكنتُ معك».
أربعُ سنواتٍ وأنا في المعهد، وسعد يتابع دراسته حتى حصل على البكالوريوس، وسجل في الماجستير، وكان يعمل في فندق بالمدينة كحامل حقائب مع أن والدي لم يتوقف أبداً عن إرسال المال، إلا أن مصروفات علاجي كانت باهظة. وسعد هو الذي اقترح على إدارة المستشفى أن توفر لي مُدَرّسة خصوصية، فأتقنتُ الإنجليزية في سنةٍ كأهلها، وعجبت أن يقول لي أحدٌ لأول مرة، وهي أستاذتي الأمريكية: «أنت في منتهى الذكاء والجمال». وبالفعل صرت أتجاوب مع العلاج، حين اقترح سعد أيضا أن يأخذني لمدرسةٍ قريبة، في المرحلة المتوسطة، وتعهد أن أكون تحت ضمانته ومسؤوليته ووقّع على كومةٍ من أوراق التعهدات مع وجود محامي المعهد.
تحسنت حالتي بشكل كبير وسعد الآن قد نال الدكتوراه، وعمل في شركة كبيرة، وبراتب مجزٍ، واستأجرَ منزلا ريفيا صغيرا كالأحلام، وأنا ارتفعت ذائقتي مع الوقت، وتعلقتُ بحبال الحياة، وضاع بعض من الغضب الذي يعتمل في قلبي، وصرت أكثر وعيا في عقلي الداخلي، بل إن المدرسة أعطتني جائزة للسلوك والتفوق. ما زالت النوبات تأتيني بين فترةٍ وأخرى، ولكنها تباعدتْ وخفّتْ، ثم نصحتني صديقاتي الأمريكيات بأن أنجبَ طفلا أو طفلة، لأكتشف، لروعي، أني لا أستطيع الإنجاب.. وثبت أني كعاطفتي مجرد شجرةٍ عجفاء لا تثمر.. وهنا خفتُ لأول مرةٍ، خفت أن «سعد» سيتركني، أنا لم أكن أحبه، ولكنه كان وسيلتي كي أستمر في الحياة.. ولمّا علِمَ، أكّد لي أني حبيبته إلى النهاية، ولم أعرف مذاقا لكلمة حبيبة.. شيء لا أتلقاه.. شيءٌ لا أعطيه.
ثم كان يجب أن نعود إلى بلدنا، وتهافتت على سعد العروضُ واختار أحسنها، وحاولت أمُّه بكل جهدها أن تزوّجه، ولكنه كان يؤكد لأمِّهِ بإصرارٍ كلّ مرّةٍ: «أمي أنا متزوجٌ، وسعيدٌ مع زوجتي..» وعفريتُ الكراهية الذي غاص في الأعماق مازال يضج بنعيقه في وجودي: أما آن لهذا الرجل أن يفهم؟!
أصيب سعد بورمٍ في الدماغ لم يمهله طويلا، ومات قبل أسبوع من رسالتي لك.. واكتشفتُ أنّه لم يعد لي مبررا في الحياة، إلا أني فعلت مثله في أول يوم زواجنا فأديتُ الصلاة التي كان يسميها «الصلاة الخاصة مع ربي»، فنصحتُ نفسي وكأني منفصلة عن نفسي، بأن أكتبَ إليك..
إني أكتبُ إليك لكي يحبَّ الناسُ «سعد»، هذا الزوجُ الذي كان إنسانا يسَعُ قلبُهُ الأرض، هذا الرجلُ الرائعُ الذي أحبّ حتى النهاية امرأةً لا تعرف معاني الروعة.. ولأقدّم الرجلَ الذي كانت الزوجات الأمريكيات يقلن لي: «أهكذا الأزواجُ السعوديون؟ إنك محظوظة بهذا الزوج.. محظوظة جدا». ولعلّ قراءك يحبونه لينجحوا فيما فشلتُ أنا فيه..».
انتهتْ رسالة الزوجة التي أراها قد أحبت زوجها محبةً نادرة، وإن كانت لا تستطيع الإفصاح عن الحب.. وعن هذا الزوجُ الذي عاشَ ملاكاً، ومات ملاكاً.