أنا شجرةٌ عجفاء لا أُثـْمِر «1-2»
.. أيُ عائلةٍ ثريةً كانت أم فقيرة، هناك فقط وسيلةٌ واحدةٌ تثبت ثراءَها الحقيقي، الثراءُ الذي يهمّ فعلا، وهو الثراءُ الذي يهبه الحبّ.
هذه رسالة وصلتني من زوجةٍ سعوديةٍ، وقصتها كما تقول شهرزاد في ألف ليلة وليلة: «قصة تُكتـَبُ بالإبر على مآقي البصر لتكون عبرةً لمن اعتبر». قصةٌ جعلتني أرتفع عن واقعي، وأسبح في عوالم متباينةٍ من العواطف، أغالب الدمعَ مرات، وأتوهج بالابتسامة حينا.. كتبَتها لي بإنجليزيةٍ صافيةٍ، لأنها لا تعرف أن تكتب وتعبر كما تريد بالعربية، وأترجمها هنا وأنا أعرف أني لن أكون أميناً في نقل العاطفة المتدفقة، وشعور المحبة الخفية الغامرة، ومقدار الوفاء الذي يقطرُ عذوبةً، رغم التشنّج، من الكلمات. قصةٌ تعطي أجمل وأسمى معاني الحب المتفاني من زوجٍ لزوجته، قصة تلمع مثل كوكبٍ دري بين أجسام معتمة من قصص المآسي الأسرية التي نتداولها كل يوم، قصةٌ تقول إن كلّ واحدٍ منا من الممكن أن يهبَ الحبّ، وإنه بهذه الهبة يكون من أكثر الناس سعادة على الأرض.. لأن مكافأتها اتصالٌ روحي مع الرضا الكلي لقرارة النفس، وسلامة الوجدان، وصحة الكيان، وسموّ العطاء.
«أنا امرأةٌ مريضةٌ نفسيا، أو لك أن تقول مصابة بذهانٍ عقلي، وللأسف فإن هذه الظاهرة تتوارث في الأسرة، فقد كانت أمي مصابة بذهان عقلي عنيف جعل حياتها قطعة من جهنم على الأرض، حيث لم تعش إلا على مذاق الضرب والإذلال من أهلها ثم من زوجها الذي هو أبي، ثم من زوجاتِ أبي اللاتي كنّ يكوينها بالنار، ويتمتعن في تعذيبها.. لم تعرف أمّنا أن تربينا، كانت كل حياتها لا تتقلبُ إلا على جمر الكراهية والاحتقار. وكان قلبُ أمي مجدبا خاليا من أحاسيس الأمومة، خاليا تماما من الحب، كما تخلو الصحراءُ من قطرةِ ماء. لذا عاشتْ أمي وماتت فقيرة في الحب، لم تنله، ولم تعطه.
والمرض انتقل لي من الطفولة، وصرتُ أتلقى المصير ذاته من كل يدٍ تطولني، كنت أُضْرَبُ من أبي، ومن إخواني، ومن أخواتي، ومن زوجات أبي، ومن مدرساتي.. وحتى أن أولَ طبيبٍ عرضتني عليه خالتي صفعني على وجهي من أول مقابلةٍ، وما زال بي ضعفُ سمعٍ من تلك الصفعة التي أشعر إلى اليوم بثقل اليد الآثمة التي هوَت علي. ثم رأى أبي وبتحريضٍ من الجميع أن أنقطع عن الدراسة وأنا في الثانية عشرة من عمري، وعشتُ حالة أمي: فقيرة للحب، لا أعطيه ولا أناله. لقد طعنتُ أخي الصغير غير الشقيق بالسكين، وأحرقتُ يوما مطبخ العائلة، ومزقتُ يدَ بنت الجيران بأسناني، لا لسببٍ إلا لهذا الكره الذي يثور في قلبي مثل عفريتٍ من نار.
لذا حين بلغت الخامسة عشرة من عمري، كان تفكيرُ أبي الوحيد أن يتخلص مني، حبسني في غرفةٍ، ولكني نكّدتُ هناءتهم بصراخي الليلي حتى إن الجيران شكوا كثيرا. حاول أن يدخلني مدرسة داخلية بالخارج ولكني هربتُ منها.. ثم علِم أبي أني يوما أختبئ في غرفة حارس المنزل، فأعادني للبلاد..إلى الغرفةِ المشئومة.
وكان هناك سعد (الاسم مستعار) وهو أحد موظفي والدي بالشركة ويكبرني بعشرة أعوام، فقد كان وقتها بالخامسة والعشرين من عمره وأنا في الخامسة عشرة. وصار ديدنُ أبي الوحيد هو إقناع الشاب سعد بالزواج بي.. على أن «سعد» وأهلـَهُ قاوموا الفكرة بشدة، حتى طرأتْ على أبي فكرةٌ لا تُرَد ولا تُصَد.. أغرى سعد بالدراسةِ في الولايات المتحدة على حساب الشركة تحت شرطٍ واحد: أن يتزوجني وألاَ يراني ولا هو أبداً بعد ذلك.
وافق سعد، وأقيم لنا حفلٌ مثل المحافل السرية سريعٌ وسابقُ التجهيز، واتجهتُ وأنا عروس في الليلة ذاتها للمطار للسفر إلى الولايات المتحدة، بعد أن شرط سعدُ أن يضمن من أبي مبلغاً مقدّما كبيراً من المال، وضمانة بنكية لكامل دراسته، وهذا ما حصل.. وتخلص مني أبي إلى الأبد.
في الطائرة كان سعد صامتاً، ثم صار يبكي طوال الرحلة.. ولم يكن سعد يعني لي أي شيء، بل لم يكن هناك أي إنسانٍ يعني لي أي شيء أبدا.. ولم تتجاوب عواطفي مع دموعِهِ، كنتُ كتلةً من الجليد، لا بل من الخشب العفِن الجاف. حين وصولنا لأمريكا قلتُ لسعد: «تخلص مني يا رجل، فأنا خطرةٌ عليك، بل خطرة على حياتك، فأنا لا أعرف إلا أن أقدم لك شيئا واحدا: الكراهية. فأنا أكرهك جدا، ولا أعرف غير هذا الإحساس وليس في داخلي غيره كي أعطيك، تخلص مني، هذه أمريكا، ارمني بأي مكان، بأي معهد، بأي مستشفى، فمعك الآن ثروة من المال..» على أن «سعد» لم ينبس ببنتِ شفةٍ ثم انخرط في بكاءٍ كبكاء الأطفال.. فازدريته وكرهته أكثر، ولو كان معي سكينٌ لشققت عينيه اللتين تنبعان بالدموع.
ونتابع القصة الإثنين القادم..