هل تتعمد الوكالة الدولية للطاقة التضليل؟
قرأت تقريراً حول النفط، منشوراً في جريدة ''الشرق الأوسط'' بتاريخ 23/11/1430هـ الموافق 11/11/2009، استرعى انتباهي تضمنه خبراً منسوباً لجريدة ''الجارديان'' البريطانية مفاده أن العالم قريب جداً من نفاد مخزون النفط, وهو ما تؤكده تقديرات الوكالة الدولية للطاقة التي تخفف من خطر نفاد المخزون كي لا تخلق حركة ذعر. وقالت صحيفة ''الجارديان'' نقلاً عن مسؤول كبير في الوكالة - رفض الكشف عن اسمه ـ أن الولايات المتحدة لعبت دوراً مهماً من أجل تشجيع الوكالة الدولية للطاقة على التقليل من أهمية نضوب حقول النفط الحالية, وإلى المبالغة من فرص إيجاد احتياطي جديد. وقال المسؤول لـ ''الجارديان'' إن (كثيرين داخل الوكالة الدولية للطاقة يعتبرون أنه حتى مستوى إنتاج ما بين 90 و95 مليون برميل يومياً سيكون مستحيلاً, ولكن يخشى حصول حركات ذعر في الأسواق المالية في حال انخفضت الأرقام). وأضاف أن (الأمريكيين يخشون انتهاء هيمنة النفط لأن ذلك من شأنه أن يهدد نفوذهم القائم على الوصول إلى المصادر النفطية). وكذلك أوضح مصدر آخر في الوكالة الدولية للطاقة، فضل أيضاً عدم الكشف عن هويته، أن القواعد الأساسية للوكالة هي (عدم إغضاب الأمريكيين), ولكن في الواقع فإن الكميات من النفط في العالم التي تؤكد الوكالة وجودها غير متوافرة. وقال (وصلنا إلى أعلى نقطة في ما يتعلق بالنفط، أعتقد أن الوضع فعلا سيئ).
لا أريد أن أناقش مسألة نضوب النفط والنظريات المتعارضة حول موعد حدوث هذا النضوب، هل سيكون قريباً أم بعيداً؟ الذي أريد التركيز عليه في هذا المقال هو التعليق على ما قالته الصحيفة البريطانية بأن الوكالة الدولية للطاقة تعمدت التقليل من أهمية نضوب نفط الآبار الحالية في العالم والتهوين من احتمال نقص قريب في الإمدادات. فإن صح هذا الخبر فهذا معناه أن الوكالة الدولية للطاقة تعمدت الكذب والتضليل إرضاء للولايات المتحدة ومسايرة لسياستها في هذا الشأن. وهنا يثور التساؤل: هل يصح أن نصدق أن منظمة دولية مثل الوكالة الدولية للطاقة تضم في عضويتها 28 دولة صناعية رئيسية مستوردة للنفط يمكن أن تصدر بيانات تنطوي على معلومات مضللة وتقديرات كاذبة؟
المنطق المجرد يرفض تصور حدوث هذا الكذب والتضليل لأن المنظمة ليست هيئة أمريكية، وهدفها خدمة مصالح جميع الدول الأعضاء، وليس دولة واحدة فقط، ولذلك نفت الوكالة تقرير (الجارديان), وقال نائب المدير التنفيذي للوكالة لشبكة CNN الإخبارية (نحن المخولون للتحذير من احتمال نضوب المخزون العالمي من النفط والغاز، لكننا لا نرى أن مثل هذا الأمر سيحدث قريباً كما زعمت بعض النظريات). وأضاف قائلاً (عموماً ينظر إلينا قطاع الصناعة النفطية في العادة باعتبارنا أكثر تشاؤماً مما ينبغي). ونفى ما جاء في تقرير الصحيفة البريطانية ''الجارديان'' وقال (لا أرى سبباً يصب في مصلحة الولايات المتحدة من وراء ذلك).
وفي تقديري أنه وإن كنا لا نستطيع الجزم بصحة هذا الخبر الذي جاءت به صحيفة ''الجارديان'' إلا أنه يتعين ألا نستبعده استبعاداً كلياً لسببين رئيسيين: الأول أن الوكالة الدولية للطاقة هي في الأصل صناعة أمريكية. فالولايات المتحدة هي صاحبة فكرة إنشائها وأن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق كان القوة المحركة لتأسيسها رداً على الحظر العربي لتصدير النفط إلى الولايات المتحدة, وما صاحب ذلك من ارتفاع كبير لأسعار النفط بعد نشوب حرب أكتوبر عام 1973. فالولايات المتحدة أرادت من إنشاء هذه الوكالة إعادة الإمساك بزمام المبادرة والقيادة في السياسة العالمية للطاقة بعد ما بدأت الدول المصدرة للنفط في استعادة السيطرة على مواردها النفطية وبعد أن تقهقر نفوذ وسيطرة الشركات النفطية الغربية المتعددة الجنسيات التي كانت بمثابة أدوات تستخدمها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية لخدمة مصالحها.
والسبب الثاني أن الوكالة تخضع في الواقع لنفوذ وهيمنة الولايات المتحدة, ويزداد هذا الواقع تأكيداً من نظام التصويت في هذه الوكالة، حيث تصدر معظم قراراتها بالأغلبية طبقاً لنظام الصوت الموزون الذي يعتمد على معيار (كمية الاستهلاك النفطي) لكل دولة عضو، بمعنى أن الدول الأعضاء تمتلك عدداً من الأوزان في التصويت بحسب استهلاكها النفطي، فالدول الأعضاء ذات الاستهلاك الكبير يكون عدد أوزانها في التصويت أكثر من عدد أوزان الدول الأقل استهلاكاً. وتوجد تفاصيل كيفية احتساب الأوزان في التصويت لسنا هنا بصدد الحديث عنها. فإذا علمنا أن الولايات المتحدة هي أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم يتضح لنا مدى الدور المؤثر للولايات المتحدة في الوكالة الدولية للطاقة سواء في تسيير أعمالها ومناشطها أو في سلطة اتخاذ القرار داخل أجهزتها.
ولعل من المناسب قبل الختام أن أسوق مثالاً من أمثلة اختلاف التقديرات حول أوضاع السوق النفطية العالمية بين الوكالة الدولية للطاقة ومنظمة الأقطار المصدرة للبترول (أوبك)، ففي منتصف عام 2007 قالت الوكالة في أحد تقاريرها إن استمرار ارتفاع أسعار النفط آنذاك ناتج عن توقع حدوث اختناقات في الإمدادات خلال السنوات المقبلة, وإن على دول أوبك زيادة إنتاجها النفطي لكبح ارتفاع الأسعار، بينما كانت ترى منظمة أوبك أنه لا توجد حاجة إلى زيادة الإنتاج لكبح ارتفاع الأسعار, وأن هذا الارتفاع لم يكن ناشئاً عن نقص في الإمدادات وإنما كان ناشئاً عن أسباب أخرى خارجة عن سيطرة (أوبك) مثال ضعف الطاقة التكريرية في الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى المستوردة للنفط, وحدوث بعض التوترات السياسية والأمنية في مناطق حيوية من العالم, وتزايد حدة المضاربة في الأسواق العالمية.
وكان مما يدعو إلى الريبة في مضمون تقرير الوكالة، سالف الذكر، أنه صدر في وقت كان الكونجرس الأمريكي يناقش مشروع قانون لمقاضاة (أوبك) أمام المحاكم الأمريكية بناء على قوانين مكافحة الاحتكار الأمريكية, بدعوى أن منظمة أوبك كانت السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار النفط، وهي تهمة غير صحيحة ويكذبها الواقع، فضلاً عن أن مشروع القانون المذكور يتعارض مع مبادئ القانون الدولي العام.
ونخلص من جميع ما سبق إلى القول إن أهداف الوكالة الدولية للطاقة وخضوعها للهيمنة الأمريكية يجعلنا ندعو إلى التعامل بحذر شديد مع بياناتها وتقاريرها اتباعا للمثل العربي الشهير (سوء الظن من حسن الفطن).