السديري واللائحة التنفيذية لنظام المرافعات .. مداخلة
قرأت بعناية واهتمام كبيرين الدراسة الفقهية التي أعدها الزميل العزيز المحامي الأديب أحمد بن خالد السديري بعنوان''اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية .. هل لها ضرورة؟'', المنشورة على جزءين في جريدة''الاقتصادية'', حيث نشر الجزء الأول في العدد الصادر بتاريخ 20/11/1430هـ الموافق 8/11/2009, ونشر الجزء الثاني في العدد الصادر بتاريخ 21/11/1430هـ الموافق 9/11/2009.
بادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى أن الأستاذ أحمد خالد السديري هو أحد أبرز المحامين السعوديين, درس القانون في جامعات مصر وفرنسا, عمل في هيئة الخبراء في مجلس الوزراء سنين عددا قبل أن يتفرغ لمهنة المحاماة. وسواء اتفقت أو اختلفت معه في الرأي فإنك لا تملك بعد أن تقرأ له بحثا أو مرافعة مكتوبة إلا أن تقر بأنه يملك أسلوبا أدبيا راقيا في التعبير ويتمتع بثقافة قانونية عميقة ومهارة عالية في التحليل والتأصيل القانوني للموضوع الذي يتناوله. ولعل المقال المشار إليه آنفا هو مثال نموذجي لأسلوبه الأدبي الجميل وموهبته الفقهية العالية. ومن يعرف الأستاذ أحمد السديري معرفة شخصية لا يملك إلا الإعجاب بحسن خلقه وتواضعه وأدبه الجم.
في مقاله المذكور يرى الزميل الفاضل ـ وبحق ـ أنه لا لزوم لصدور لائحة تنفيذية لنظام المرافعات الشرعية, وأن صدور هذه اللائحة كان بدعا في هذا النوع من التشريعات, إذ لم يعرف من قبل أن صدرت لائحة تنفيذية لقانون مرافعات. وبأسلوب قانوني أدبي رفيع أوضح الزميل الفاضل في دراسته القيمة والماتعة المآخذ والعيوب الشكلية والموضوعية التي اكتنفت اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية الحالي, وأن هذه العيوب حالت دون تحقيق المقاصد العامة للمشرع من إصدار هذا النظام وهي إعادة تنظيم إجراءات التقاضي على نحو يتواكب مع تطور المجتمع ومستجدات العصر ويتغيا تيسير سير الدعاوى وإجراءات التقاضي, وكانت نتيجة هذه العيوب أن المتقاضين لم يشعروا بحدوث تغيير جوهري في أساليب وإجراءات التقاضي بعد صدور النظام المذكور.
ولعل أكثر العيوب فداحة وأشدها نكرا, التي حددها الزميل الفاضل أن بعض مواد اللائحة غيرت الطبيعة القانونية لهذه اللائحة وحولتها من لائحة تنفيذية إلى لائحة تفسيرية, وأن بعض المواد الأخرى احتوت أحكاما جديدة, أي أنها أضافت إلى النظام أحكاما لم ينص عليها, الأمر الذي ينطوي على اغتصاب لسلطة التشريع (إصدار الأنظمة) التي هي مقررة شرعا لولي الأمر وليس غيره, ثم ساق الزميل القائل أمثلة من نصوص اللائحة التي تنطوي على أحكام جديدة, ولسنا هنا بصدد إعادة استعراضها ومن يرغب في معرفة التفاصيل في هذا الشأن فليقرأ دراسة الأستاذ أحمد خالد السديري.
ولعل من المفيد في هذا الصدد أن أشير إلى أنني سبق أن تناولت موضوع الرقابة القضائية على اللوائح التنفيذية في مقال منشور في جريدة''الاقتصادية'' بتاريخ 10/3/1428هـ الموافق 29/3/2007, أوضحت فيه مفهوم اللوائح التنفيذية في فقه القانون الإداري بأنها اللوائح التي تهدف إلى (وضع التفصيلات والجزئيات اللازمة لتيسير تنفيذ أحكام القانون دون إنشاء أية قواعد جديدة عليه, لذلك فإنه من غير المشروع أن تضمن الجهة الإدارية المختصة اللائحة التنفيذية قواعد وأحكاما قانونية من شأنها تعديل أو تعطيل أحكام القانون أو الإعفاء من تنفيذه أو إضافة قواعد وأحكام غير لازمة لتنفيذ القانون, لأن الإضافة تعد خروجا من مجال التنفيذ إلى مجال التشريع. وقد أخذ ديوان المظالم بهذا المفهوم لنطاق اللوائح التنفيذية, حيث قرر في قراره رقم (1/ت لعام 1401) الصادر في القضية رقم 1/2/ق لعام 1400 أن''اللوائح التنفيذية هي لوائح تستند إلى نظم سنتها السلطة المختصة وتقتصر تلك اللوائح على قواعد تفصيلية لتنفيذ هذه النظم, ولا يجوز أن تزيد عليها شيئا جديدا أو تعدل فيها أو أن تعفي من تنفيذها أو أن تعطل هذا التنفيذ..'').
في ضوء ما تقدم فإنني أدعو الجهات المختصة إلى إعادة النظر في جميع اللوائح التنفيذية الحالية وتنقيحها وتعديلها على النحو الذي يكفل خلوها من مآخذ وعيوب شكلية أو موضوعية تكون قد شابتها.
وقبل الختام تجدر الإشارة إلى أن الزميل الفاضل أشار إلى مشروع نظام المرافعات الشرعية الجديد وكرر القول إنه لا ضرورة لإصدار لائحة تنفيذية لهذا النظام, وإنه إذا كان مجلس الشورى قد صوت على بقاء البند الذي ينص على صدور لائحة تنفيذية له فإنه يرجو الجهة التي يوكل إليها النظام صياغة هذه اللائحة كوزارة العدل أو رئاسة المجلس الأعلى للقضاء, أن تعهد بصياغتها إلى مستشارين لهم خبرة في هذا الأمر, وحبذا لو استأنسوا بآراء نفر من كبار المستشارين المتقاعدين الذين عملوا في مجلس الدولة في مصر, فهم مشهورون بعلو كعبهم في هذا المجال. والواقع أنني لا أرى ضيرا أو جناحا في الاستعانة بمستشارين قانونيين من مصر وغيرها, فكثير من الدول العربية تستعين بهم, بل إن ديوان المظالم سبق أن استعان بهم ردحا طويلا من الزمن فساهموا في إرساء قواعد بنيان القضاء الإداري السعودي, لذلك أقترح أن يستعان بهم أيضا في المرحلة التأسيسية للمحاكم التجارية وغيرها من المحاكم المتخصصة التي من المزمع إنشاؤها بموجب نظام القضاء الجديد, بحيث يساعدون القضاة على دراسة القضايا المعروضة عليهم وتلخيص وقائعها وما أبداه الخصوم من دفاع ودفوع وإبداء الرأي بشأنها, الأمر الذي سيؤدي إلى إزالة بعض أسباب بطء التقاضي ويسهم في تثبيت وترسيخ القواعد الإجرائية والموضوعية لمنظومة أعمال ومهام هذه المحاكم.
في الختام أقول إن دراسة الأستاذ أحمد خالد السديري وما انطوت عليه من مقترحات وتوصيات تستحق أن تحظى بالاهتمام من قبل المسؤولين في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء.