Author

عقبات تواجه التحوّل إلى اقتصاد المعرفة

|
إنتاج المعرفة بالبحث العلمي والتقني المبدع ونشر المعرفة بالتعليم والتعلم الميسر بلغة الطالب الأم وتوظيف ناتج المعرفة بربطه بالإنتاج والخدمات، هي أركان اقتصاد المعرفة، لكن البوابة الأولى والوحيدة لدخول اقتصاد المعرفة هي إنتاج المعرفة في مجالات العلوم والتقنية. لقد أوضحت الدراسات أن عدد العلماء والمهندسين في كل مليون من السكان يمثل عاملا حاسماً في إنتاج المعرفة عندما يقترن بنسبة عالية من الناتج المحلي الإجمالي تنفق على البحث العلمي. ومما يضمن جدوى البحث العلمي ويعجل بثمرته في بلد ما، الربط الوثيق بين الصناعة والخدمات ونتائج البحث العلمي. إن إنتاج المعرفة في نظامنا التعليمي تعترضه أربع عقبات مزمنة كلها تتعارض مع المتطلب الأساسي لإنتاج المعرفة العلمية والتقنية مفتاح اقتصاد المعرفة، فالمتطلب الأساسي لإنتاج المعرفة هو إكثار عدد العلماء العلميين والمهندسين والتقنيين في مخرجات نظامنا التعليمي. إن العقبة الأولى أمام تحولنا إلى اقتصاد المعرفة تتمثل في قلة نصيب العلوم والرياضيات من حصص المنهج في التعليم العام، بدءا من الروضة وانتهاء بالثانوية، فإضافة إلى طرق التدريس التي يغلب عليها الحفظ وتقل فيها أساليب التفكير النقدي والإبداعي وحل المشكلات والتعلم الذاتي والتعاوني، فلا يتجاوز نصيب العلوم والرياضيات 20 في المائة من إجمالي الحصص في التعليم العام. إن طرق التدريس السائدة لا تنسجم مع متطلب التحول إلى اقتصاد المعرفة وتحقيق مفتاحه المتمثل في إكثار الباحثين العلميين والهندسيين والتقنيين الذين ينتجون المعرفة. إن هذه العقبة تستطيع حلها وزارة التربية والتعليم من خلال توجيه مناهج تعليمنا العام من مرحلة الروضة حتى مرحلة الثانوية توجها علميا تقنيا ورفع نسبة حصص العلوم والرياضيات والحاسب في تلك المناهج ومراجعة طرق التدريس وأساليبه المتبعة حاليا. والأهم من هذا رسم معايير واضحة وملزمة لتعليمنا العام تكون أساسا لمحاسبة من يقصر. أما العقبة الثانية التي تحول بيننا وبين تحقيق إكثار العلماء والمهندسين في العلوم والتقنية، فهي تشعيب المرحلة الثانوية في نظامنا التعليمي العام إلى علمي وأدبي، حيث يتجه نصف طلاب المرحلة الثانوية إلى العلمي، والنصف الآخر إلى الأدبي، وبذلك يتجه نصف خريجي الثانوية العامة في المرحلة الجامعية بمقتضى ثانويتهم الأدبية إلى تخصصات غير علمية وغير تقنية. إن إزالة هذه العقبة تتم بقرار يُلغى بموجبه تشعيب الثانوية، لتصبح المرحلة الثانوية واحدة ذات توجه علمي تقني في مناهجها لا تحرم أي طالب أو طالبة من القبول في التخصصات العلمية والهندسية والصحية والتقنية، خدمة للتحول إلى اقتصاد المعرفة. أما العقبة الثالثة فتتمثل في لغة التدريس في التخصصات العلمية والهندسية والطبية في تعليمنا الجامعي. إن تدريس هذه التخصصات باللغة الإنجليزية مع عدم إتقان الطلاب هذه اللغة، يسبب تسرب ما نسبته 65 في المائة على الأقل من الطلاب الدارسين في هذه التخصصات العلمية في المرحلة الجامعية. إن هذا الواقع المرير المسكوت عنه تماما من جميع جامعاتنا التي تخرّج في أقسامها العلمية والهندسية والطبية 35 في المائة من أي فوج يدخلها من الثانوية العلمية، فمن ينجون من الأدبي وينجون من التسرب ويتخرجون يتخرج 75 - 85 في المائة منهم بدرجة مقبول وجيد. إن هذا الواقع الذي لا يتحدث عنه أحد تماما في التعليم العالي يتناقض مع مطلب إكثار العلماء والمهندسين الذين سيخرج من بينهم الباحثون الذين ينتجون المعرفة مفتاح التحول لاقتصاد المعرفة. إن التدريس الجامعي بلغة غير لغة الطالب الأم العربية يلغي الركن الثاني لاقتصاد المعرفة، وهو نشر المعرفة وتدريسها لجميع الطلاب ونشرها بجميع وسائل النشر بلغة الطالب الأم. إن اللغة الإنجليزية تمثل حاجزا لغويا بين طلابنا وفهم تخصصاتهم العلمية والإبداع والتفوق فيها ليخرج منهم العلماء والباحثون بأكثر عدد ممكن وبأعلى مستوى. ولئلا يفهم أحد خطأ أن الباحث والعالم لا يحتاجان إلى اللغة الإنجليزية أو لغة أجنبية أخرى، فالأمر على عكس ذلك، ففي مرحلة الماجستير والدكتوراه لا بد من إتقان اللغة الإنجليزية أو لغة أجنبية أخرى, لمواصلة الدراسة العليا والمواكبة العلمية، لكن لا يجب أن تكون اللغة الإنجليزية حجر عثرة في وجه طلابنا في التخصصات العلمية والهندسية والطبية في المرحلة الجامعية، مسببة كارثة تعليمية لا يجرؤ أحد على التحدث عنها، ومن كان في شك فليراجع الإحصاءات. إن هذه العقبة التي كانت وما زالت تقلل من كفاءة تعليمنا العالي وتقلل من عدد ومستوى المتخرجين العلميين والهندسيين منه، يمكن حلها بقرار سياسي يلزم بتعريب التعليم العالي العلمي والطبي والهندسي في المرحلة الجامعية، خصوصا أن الضرورة التي كانت الجامعات تتذرع بها لممارسة جواز التدريس بغير اللغة العربية قد زالت تماما، فجميع أعضاء هيئة التدريس سعوديون أو عرب، ومن لا يستطيع منهم تأليف كتاب مقرره الدراسي العلمي باللغة العربية يستطيع ترجمة أحدث الكتب العلمية ليتخذه كتابا لمقرره الدراسي، فيريح الطالب ويرفع من كفاءة تعليمنا العالي، ويرفع من عدد ومستوى المتخرجين، ويزيد فرص الإبداع والابتكار بين طلابنا، ويعيننا على التحول إلى اقتصاد المعرفة. أما العقبة الرابعة التي نعانيها، فهي غياب مرجعية للبحث العلمي على المستوى الوطني. يوجد في جامعاتنا عمادات للدراسات العليا والبحث العلمي، وتوجد مراكز للبحوث في الكليات ومراكز أبحاث في بعض الوزارات ومعاهد بحوث متعددة في الجامعات أو في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وتقوم بعض الشركات بإنشاء مراكز بحث وتطوير تتصل بأعمالها ومنتجاتها، ولدينا عشرات الآلاف من طلاب الدراسات العليا في جامعاتنا في الداخل ومبتعثين للدراسات العليا في جامعات عالمية في الخارج، لكن اقتصاد المعرفة لا يتحقق إلا بربط النشاط البحثي المبدع وتوجيهه بذكاء وتخطيط مسبق لما يخدم اقتصادنا ويحل مشكلات تنميتنا. أما إذا استمر البحث العلمي كما كان سابقا يقوده التساهل وتقوده أهواء الباحثين والمشرفين على الباحثين وحاجة أعضاء هيئة التدريس إلى بحوث الترقية، فسيستمر الغبار يتراكم على نتائج تلك البحوث التي لا قيمة لها. إن النشاط البحثي الذي لم يخطط له ليوائم حاجة اقتصادنا وتنميتنا ولم توضع له أولويات ويعوزه التمويل، سيتوقف ولن يوصلنا إلى اقتصاد المعرفة. إن الخروج من الواقع المشتت للبحث العلمي على المستوى الوطني يتطلب وبسرعة إصدار نظام للبحث العلمي على المستوى الوطني يوحّد جهود البحث العلمي من حيث الأهداف والسياسات والخطط، وينسق بين جهاته ويضمن وينمي مصادر تمويله ويرسم أولوياته ويوجه الجهود البحثية لمعالجة القضايا الملحة والطارئة, ويوفر البيئة المناسبة للبحث والباحث ويسخر البحث العلمي ويتابع تطبيق نتائجه لتعزيز نمو الاقتصاد الوطني. إن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، الذي وصل عدد المبتعثين فيه إلى أكثر من 70 ألف مبتعث في مجالات الطب والهندسة والعلوم، وتأسيس جامعات المناطق العلمية التطبيقية، إضافة إلى افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية وبرامج الدراسات العليا في جامعتنا، كلها وضعت الأساس لبناء قاعدة علمية راسخة تقلل الفجوة العلمية والتقنية بيننا وبين الدول المتقدمة علميا وتقنيا واقتصاديا. إن كثرة الجامعات العلمية والتطبيقية في الداخل وكثرة المبتعثين في المجالات العلمية والتقنية نفسها وتعدد مراكز البحث العلمي ومعاهده، يمثل بنية تحتية راسخة للبحث العلمي في بلادنا. وما نحتاج إليه في هذا الوقت بالذات هو إصدار نظام البحث العلمي الذي يضمن لنا الاستفادة من البنية التحتية للبحث العلمي التي توافرت لبلادنا. إن رؤية القائد الذي نشر الجامعات العلمية التطبيقية على مساحة الوطن ووفّر الحوافز للبحث والباحث المبدع وأسس جامعة الملك عبد الله بمعايير بحثية عالمية وابتعث عشرات الألوف في تخصصات علمية إلى أرقى الجامعات العالمية، لن تقصر عن إصدار نظام البحث العلمي الذي سبق أن درسه ورفعه مجلس الشورى للمقام السامي عام 1425هـ. إن صدور هذا النظام سيلمّ شتات هذا النشاط الذي ينتج المعرفة، التي يمثل إنتاجها مفتاح التحول إلى اقتصاد المعرفة، الذي رسمه القائد ــ حفظه الله ــ كهدف لاقتصادنا الوطني.
إنشرها