أن تحمل سيفك ضد التيار..!

قبل نحو عشر سنوات كنت في حديث مع أمينة السلمي ــ رحمها الله ــ التي كانت حينها إحدى أبرز الشخصيات الأمريكية التي تعمل لمصلحة خدمة قضايا المسلمين والعرب في أمريكا، وذلك بعد اعتناقها الإسلام في السبعينيات الميلادية. كانت أمينة حينها تنتقد العرب والمسلمين في أمريكا الذين يحاولون عزل أبنائهم عن المجتمع الأمريكي أملا في تربيتهم على طريقتهم الخاصة بما يتوافق مع القيم العربية والإسلامية، وذلك في رأيها لأن الثقافة الأمريكية كالطوفان الذي لا يمكن مقاومته. الحل في رأي أمينة كان هو أن تعمل من ضمن الثقافة نفسها، وتحاول أن تسمح للطفل بأن يفهم معطيات الثقافة الأمريكية، ومعطيات الثقافة الإسلامية/ العربية، ثم شرح الفرق بأسلوب مقنع، مع محاولة إيجاد أكبر قدر من الانسجام في عقل الطفل بين الثقافتين.
كيف يمكن خلق الانسجام بين ثقافتين متضادتين تماما في عقل الطفل أو المراهق؟ الجواب صعب جدا, ولكن يمكن طرح أمثلة عليه، فالثقافة الغربية تؤمن بالشخصية الفردية التي تفعل ما تريد وما يميزها عن الآخرين، ولذا فطرح هذا الأمر على الطفل على أنه أمر إيجابي ضروري لأن كل شيء في طوفان ثقافة المجتمع يقول ذلك، ولكن في الوقت نفسه يتم إقناع الطفل بأن أحد خياراته لخلق شخصيته المنفردة هو الالتزام بالقيم العربية (مثل اجتناب العلاقات الحميمة قبل الزواج) بشرط إقناع الطفل بالسبب الذي يدعوه إلى فعل ذلك وعدم الاكتفاء بالقول إننا «نحن مختلفون» و«هذا هو الصحيح» دون شرح الحجج كافة التي تبرر هذا الالتزام.
اليوم وبسبب العولمة والإنترنت والقنوات الفضائية وطوفان الثقافة الغربية التي بدأت تتسرب لكل بيت عربي من كل ثغرة، صار لدينا وضع يشبه وضع العرب في أمريكا، وصار هناك احتياج لأسلوب جديد تماما يتعامل به المجتمع مع صغار السن أطفالا ومراهقين، شبابا وفتيات، وهذا الأسلوب يجب أن يعترف بأنه لم يعد من الممكن تقديم القيم على أنها مسلمات غير قابلة للنقاش، ويجب فقط الالتزام بها استجابة للضغط الاجتماعي.
هناك كثير من الآباء الذين يحاولون فرض العزلة بطريقة أو بأخرى، مثل منع الإنترنت والقنوات الفضائية في المنازل، ولكن هذه المجهودات تفشل عادة، بل ربما تخلق في كثير من الأحيان حالة «الممنوع المرغوب» التي تزيد من المشكلة ولا تقللها. في الواقع، أنا شخصيا متشائم جدا عن القدرة على تجنب تيار العولمة وتيار الثقافات الغربية والشرقية المتدفق إلينا، لذلك استخدمت في العنوان كلمة حادة في معناها لأشبه من يفعل ذلك بالشخص الذي يلبس عدة الحرب ويحمل سيفه ليقف بين أمواج البحر الصاخبة محاولا أن يوقفها عن الوصول إلى الشاطئ. إنه وضع أسوأ بكثير من «السباحة ضد التيار».
في المقابل, فإن كثيرا من الآباء الذين يحاولون فعلا الانفتاح وخلق حالة من الإقناع لدى أطفالهم يفشلون في ذلك، وهذا لسببين:
الأول لأننا لم نفهم كيف تعمل هذه الثقافة الإعلامية في عقل المشاهد أو القارئ، ولا نعرف ما القيم التي تزرع وكيفية زرعها والمنطق التي تنطلق منه، أما السبب الثاني فهو لأننا نلتزم بكثير من القيم في حياتنا دون أن نعرف بالفعل لماذا نفعل ذلك سوى أننا تربينا على أن هذا هو الصحيح وما عداه خطأ.
هذا الوضع يتطلب تغييرا، وهو تغيير لا يمكن أن يكون سطحيا، كما أنه لا بد أن يكون تدريجيا هادئا، تغييرا يجعل المجتمع في بحث دائم عن المنطق ومحاولات الإقناع وبناء القيم والعادات على أساس من الفهم المشترك، وهو تغيير يحول جوهر ثقافتنا العربية نفسها التي قامت لمئات السنين على التقيد الحرفي بعدد لا بأس به من التقاليد دون الخوض في تفاصيلها.
رغم أن هذا التغيير يجب أن يحصل داخل الأسرة بشكل خاص، ولكنه أيضا مطلوب للمدرسة والمسجد والإعلام المحلي والكتب وغيرها من أساليب خلق الثقافة، وهو تغيير قريب تماما مما هو موجود في الثقافة الغربية، التي تحاول أن تربط كل القيم الموجودة بإطار نظري مبسط وواضح لعموم الناس. ربما كانت هذه نقطة الانسجام المنشودة بيننا وبين الثقافة الغربية، فكما أن الشخص الغربي يؤمن بقيم معينة مثل الفردية والحرية والرأسمالية والتي يربط بها الكثير من قرارات حياته وقيمه الشخصية، فإن الإنسان العربي والمسلم يحتاج إلى مجموعة من القيم التي يفهمها ويتقن الدفاع عنها ويؤمن بها رغم طوفان الثقافة الأخرى.
إن ثورة المعلومات لن تهدأ يوما، وستنفجر أكثر وأكثر لتصبح الحركة الحرة للمعلومات والأفكار جزءا أساسيا من حياة أي إنسان، والسبب هو التكنولوجيا طبعا، وهي لا تكف عن التطور في مختلف الاتجاهات حتى صار من المستحيل التحكم فيها.
لا أطالب بالسباحة مع التيار ولكن أطالب بصناعة السفينة التي تمكننا من خوض البحر بسلام!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي