إذا كنا حتما سنتغير.. فلماذا لا نخطط ذلك؟

إذا كنا حتماً سنتغير!, أليس من الحكمة أن يكون تغيرنا ممنهجا، بحيث لا نفقد تماسك النسيج الاجتماعي بصيغته الفكرية والتركيبية, أو نفتقد الهوية التي بها نعرف أنفسنا, هذا التغيير سيكون مصدر قوة لنا إن أدرناه بوعي وانسجام أو سيكون مصدر ضعف وتفتيت لجهودنا التنموية. هذا الكلام هو استتباع لمحور حديثي الأسبوع الماضي حول بناء الرؤية الوطنية الشاملة التي تتمثل في رسم صورة استشرافية مستقبلية للواقع الذي نريد عليه بلادنا وخريطة الطريق التي ستؤدي إلى تحقيق تلك الصورة بأقل التكاليف والجهود.
عندما كانت السفن الإسبانية والبرتغالية ترتاد موانئ جنوب اليابان في القرن السادس عشر الميلادي للتجارة, لم تكن تجلب معها المصالح التجارية فقط، بل كانت تجلب المنصرين الكاثوليك, وعندما شعر اليابانيون إبان عصر الشوغون (إيمتسو تكوجاوا) في القرن السابع عشر بالخطر من حملة التنصير الكاثولوكية وضعف التركيبة البنائية لعقيدة الشنتو التي تجمع اليابانيين, والخوف من فقدان الطابع الاجتماعي الاقطاعي الطبقي, أصدر الشوغون قانون «ساكوكو»، الذي يعني الإغلاق، حيث حصرت التجارة بين اليابان وباقي العالم في كل من الهولنديين والصينيين والكوريين فقط وحددت موانئ معينة للتجارة مع كل فئة ومنع على الشعب الياباني الخروج من اليابان أو دخول الأجانب لها ومن يجرؤ على مخالفة ذلك يحكم عليه بالموت. هذا القانون استمر العمل به حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأ الإمبراطور (ميجي) الإصلاح السياسي والاجتماعي، الذي لم يكن سهلاً، حيث جلب ويلات على اليابانيين تمثلت في حروب أهلية حتى حسمت بفضل المعونات الأمريكية والبريطانية من الأسلحة الحديثة التي وضعت السلطة بيد الإمبراطور الشاب وأنهت عهد (الشوغونات) وبدأت اليابان مسيرة التنمية, على أن كثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع اليابانيون يعتقدون أن الإغلاق أثر في الفكر الياباني، بحيث وسم العلاقات اليابانية مع العالم حتى الآن.
عندما يكون التباين الحضاري لدى أمة مع مثيلاتها المجاورة أو تلك التي تنشط معها علاقات مصالح فإن الأمة الأقل انسجاماً هي التي تكون تحت ضغوط التغيير، وهذا ما حدث لليابان عندما كانت غير متجانسة مع الدول التي تمارس معها التجارة في القرن السادس عشر، ما جعل القيادة السياسة تضطر من فرط حيرتها وخوفها فقدان بنائها العقيدي والاجتماعي لسجن نفسها وشعبها ضمن حدود البلاد قرنين من الزمن. هذا المثال الياباني يجسد حقيقة أن الخصوصية الأممية أو الوطنية غير ثابتة ومحاولة الدفاع عنها بشتى الوسائل ومنها الانغلاق عن العالم لن يكون ذا جدوى حقيقية, ربما يجد القارئ الكريم أن مخاوف اليابانيين وواقعهم آنذاك مختلف عما أنا بصدد توضيحه, ولكن على اختلاف المضمون فمنطلقنا واحد وهو حماية الخصوصية العقيدية.
لذا أريد أن أوضح حقيقة أننا في المملكة متباينون حضارياً في كثير من مظاهرنا مع باقي دول العالم وتلك المظاهر مؤسسة على قيم دينية, ونحن باستمرار سنتعرض إلى ضغوط خارجية تتمثل في متطلبات تفرضها الأمم التي نتعامل معها التي ربما تقايض ذلك بمواقف أو مصالح لنا عندهم, وضغوط داخلية تتمثل في تنامي فئة من المجتمع ترى تقليل ذلك التباين بحجج منها أن الإسلام متسع لقبول مظاهر حضارية متعددة، وأن الضغوط التي تمارس علينا تفقدنا بعض مكتسبات المسيرة التنموية. وباستعراض حال المملكة من حيث البنائية الفكرية الاجتماعية منذ أن تم توحيدها إلى اليوم نجد أن المجتمع قد تغير بصورة كبيرة وأن هذا التغير دائماً كان في مظاهر حضارية فرعية احتملها الحراك الاجتماعي ضمن إطار محدد يسميه البعض المرتكزات أو الأسس ويجد البعض أن المساس بتلك أو حتى مناقشتها هي خطوط حمراء, مع أن المراقب المحايد لا يملك إلا أن يعترف أن هذا الإطار الذي يظن بصلابته بات تحت ضغط هائل وقد لا يصمد كثيرا.
إن المظاهر الحضارية التي نكاد نغيرها أو تلك التي ستتغير تباعاً تمس صلب التركيبة الاجتماعية السعودية, فعلاقة الدولة بالفرد تقوم على مبدأ والدية الدولة بحيث تكون هي منشئ التنظيم الاجتماعي والسلوكي من منطلق الحق السيادي لولي الأمر, حيث لا يملك المجتمع حق تكوين الضوابط الذاتية ومن ذلك وضع المعايير التي يتعامل بها أفراده أو مجموعاته التي تضمن الحقوق والممارسات, كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة بجميع تمحوراتها من حيث الإرادة الفردية المحكومة بالولاية, والحرية في الحركة والنشاط الاجتماعي والمحكومة بتنظيم الاختلاط بين الجنسين والحقوق والواجبات الوالدية والمحكومة بنظم الزواج والطلاق والحضانة, ثم الحقوق المدنية للمرأة المتمثلة في حق اختيار التجارة والعمل والسفر والقيادة والاقتراع. هذه المظاهر كلها ستكون عرضة للتغيير الحتمي, ليس بالضرورة أنها ستتغير بصورة مماثلة لمجتمعات محددة، ولكنها ستتغير بصورة أكثر مواءمة وربما وبفعل التمازج الحضاري مع الآخرين وعلى المدى الطويل ستتماثل إلى حد كبير. هذا التنبؤ مبني على ما عرف, أن الظواهر الحضارية التي حكمت الأمم المختلفة، التي كانت متباينة بصورة كبيرة في بدايات القرن العشرين هي الآن أقل تباينا والعالم يسير للتماثل في هذا الجانب.
إذا لم نحسم أمرنا في مسألة قبول التغير، فسنكون دائماً وفي كل مرة نختلف ونتشاكس حول كل مبادرة حضارية كما كنا في البداية, فمن البرقية وحتى جامعة الملك عبد الله, لا نختلف حول المضمون، ولكن على ما سيترتب على ذلك من مظاهر حضارية. وبما أن ذلك التغيير حتمي أفلا يجب أن ننظم هذا التغير, ألا يجب أن نحدد القيم التي على أساسها سنتغير التي سنلتزم بها حتى نحافظ على توازننا الاجتماعي والكياني. التغيير الحتمي يحدث شئنا أم أبينا, فليكن تحت رقابتنا ولنمكن أنفسنا من إدارة ذلك التغير بحيث يكون مصدر قوة لنا لا ضعف, فئة كبيرة من الناس لن تستسيغ التغير وربما لن تسهم فيه وهناك من سيعترضه، ولكن النتيجة محسومة سلفاً, والخيار لدينا في الكيفية التي نريد هذا التغير فإن أردناه مصدر قوة فيلزمنا التخطيط والتنظيم لنسير في طريق ممهد وأن أردناه غير ذلك سيجبرنا على طرق وعرة خلالها ربما نتوه أو ينهكنا مسيرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي