Author

استراتيجية «المتكلم» ورد الفيلسوف!

|
حدد الغزالي المسائل التي أراد الرد فيها على من أطلق عليهم الفلاسفة - والمقصود ابن سينا تخصيصا - في 20 مسألة: 16 منها في «الإلهيات»، وأربع في «الطبيعيات». وتدور جميع هذه المسائل حول القضايا نفسها التي اتخذها علم الكلام موضوعا له مثل قدم العالم أو حدوثه، وذات الله وصفاته، ونفي الشريك عنه .. إلخ. أما «الطبيعيات» فلم يتعرض الغزالي فيها إلا لمسائل أربع، اعتبرها تتناقض مع العقيدة الدينية كما يقررها المذهب الأشعري. وهذه المسائل هي: مسألة السببية، ومسألة جوهرية النفس واستقلالها عن البدن، ومسألة خلودها، وأخيرا مسألة حشر الأجساد. أما المنطق فقد سكت عنه في هذا الكتاب بينما نوه به وعمل على نشره والترويج له (القياس الصوري خاصة)، لأنه يريد ـ كما قال - أن يرد على الفلاسفة بسلاحهم نفسه. وهكذا عدل الغزالي في كتابه عن الترتيب المعروف في المؤلفات الفلسفية منذ أرسطو، وهو الترتيب الذي يقضي بتقديم الطبيعيات على الإلهيات، باعتبار أن الطبيعيات هي التي تؤسس الإلهيات، بمعنى البرهنة على وجود الله (السبب الأول) يجب أن تنطلق من المسببات، أي من تأمل ظواهر الكون، التي هي موضوع علم الطبيعيات. لم يكن الغزالي يجهل المقتضيات المنهجية والعلمية التي تفرض تقديم الطبيعيات على الإلهيات، أعني كون هذه مبنية على تلك؛ وبالتالي فتقديـم الإلهيات في كتابه لم يكن عملا بريئا، بل كان بهدف عزل النتائج عن مقدماتها ليسهل عليه التشكيك فيها وإبطالها. وقد اشتكى ابن رشد في «تهافت التهافت» من سلوك الغزالي هذا غير مرة. يقول مخاطبا القارئ: «فوجه الاعتـراض على الفلاسفة في هذه الأشياء، إنما يجب أن يكون في الأوائل التي استعملوها في بيان هذه الأشياء، لا في هذه الأشياء أنفسها التي اعترض عليها هذا الرجل». وأيضا: «ولا يَقف على مذاهبهم (الفلاسفة) في هذه الأشيـاء إلا من نظر في كتبهم على الشروط التي وضعوها، مع فطرة فائقة ومعلم عارف». لكن الغزالي في هذا الكتاب، كتاب «تهافت الفلاسفة»، لم يكن يطلب الحق، وإنما كان قصده التشغيب والتشويش، والهدم والتشكيك، كما أكد ذلك هو نفسه مرارا، في مواضع كثيرة من كتابه، وبعبارات صريحة قوية. من ذلك قوله: «ونحن لم نلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتعبير في وجوه أدلتهم، بما نبين تهافتهم. ولم نتطرق للذب عن مذهب معين». وقوله: «نحن لم نخض في هذا الكتاب خوض الممهدين بل خوض الهادمين المعترضين ولذلك سمينا الكتاب تهافت الفلاسفة لا تمهيد الحق», وأيضا: «المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين القطعية، وتشكيككم في دعاويكم». ولكي نفهم موقف الغزالي هنا يجب أن نتذكر أن مخاطبه هنا هو ابن سينا تحديدا، وأنه لم يكتب كتابه «تهافت الفلاسفة»، للرد على الفلاسفة من موقع «الرأي المخالف»، بل لقد كتب هذا الكتاب، كما بينا ذلك قبل، من موقع «الدفاع»، سالكا الاستراتيجية القائلة: «أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم»، الدفاع عن المذهب الأشعري الذي كان قد بلغ مرحلة من التطور أطلقنا عليهـا في مكان آخر مرحلة «الترسيم الأيديولوجي»، وقد اتخذت منه الدولة السلجوقية السنية، التي كان الغزالي يعيش في كنفها، درعا لمواجهة هجمات الإسماعيلية وتحديات الشيعة الاثنا عشرية، الظاهرة منها والمستترة. أما ابن سينا ـ الذي عاش قبله في كنف أمراء البوهيين الشيعة، والذي كان شيعيا اثنا عشريا وعلى صلة ما بفكر الإسماعيلية العدو اللدود للسلجوقين- فقد أراد، كما أوضحنا ذلك قبل، أن يجعل مما كتبه في «العلم الإلهي»، (سواء في موسوعته «الشفاء» أو ملخصها «النجاة» أو في «الإشارات والتنبيهات»، وتلك هي أهم كتبه الفلسفية)، أقول أراد أن يجعل مما كتب في «الإلهيات» بديلا فلسفيا لـ «علم الكلام»، وبالتحديد علم الكلام الأشعري. لقد أخذ مسائل هـذا «العلم» واتخذ فيها مواقف مضادة لما تقول به الأشعرية، وعمل على البرهنة عليها بخطاب فلسفي، موظفا مفاهيم ورؤى فلسفية، وبالخصوص منها تلك التي انحدرت إليه وإلى الفارابي من محاولات التوفيق بين «الفلسفة» و»الدين» ومن النزعات العرفانية، وهي المحاولات والنزعات التي أخذت تنتشر بعد أرسطـو، ومنذ القرن الرابع قبل الميلاد، في كل من أثينا وروما والإسكندرية وحران وفي غيرها من المدارس التي عرفها «الشرق الأوسط» قبل الإسلام. هكذا جاءت إلهيات ابن سينا عبارة عن: «فلسفة كلامية» ابتعدت عن موضوعات «ما بعد الطبيعة» لأرسطو، لتنشغل انشغلا كليا بموضوعات «علم الكلام» الإسلامي. لقد اختصر الشيخ الرئيس، في قسم الإلهيات من كتابيه «الشفاء» والنجاة»، المقالات (أو الفصول) الأربع عشرة التي تشكل محتوى كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو، اختصرها في مقالة صغيرة من نحو خمسة وعشرين صفحة ليخصص الباقي، وهو ثمانون صفحة، لقضايا «علم الكلام» الإسلامي، وهي تدور كلها حول «الواجب» (الله)، كماله, وحدانيته، بساطته، صفاته، صدور العالم عنه، العقول السماوية (الملائكة)، النبوة، القضاء والقدر، البعث والمعاد، والعبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة .. إلخ, ولم يقتصر ابن سينا على هذا النوع من «التبني» لقضايا علم الكلام، بل لقد انتقد من سماهم بـ «المخالفين» من المتكلمين، وهم الأشاعرة بالتحديد، معترضا على طريقتهم في «النظر». وإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا التحدي الذي كان يواجه المذهب الأشعري قد جاء من شخصية علمية كبيرة واسعة الصيت تنتمي إلى خصم مذهبي وسياسي (الشيعة)، أدركنا لماذا اختار الغزالي استراتيجية «الدفاع بواسطة الهجوم». كان الحوار بين ابن رشد والغزالي سيكون أقل تعقيدا، لو أن هذا الأخير كان يعرض ردوده واعتراضاته على ابن سينا بصورة مباشرة ومتواصلة، كمـا فعل الشهرستاني مثلا في كتابه «مصارعة الفلاسفة»، حيث يورد نصا لابن سينا ثم يناقشه مناقشة منطقية ويبين مواطن الضعف أو التناقض فيه. لكن الغزالي اعتمد عن قصد أسلوب «طريقة المتقدمين» من المتكلمين في الرد على الخصوم والمخالفين، أسلوب: «فإن قلتم .. قلنا..»، وهو أسلوب يقوم على مجادلة الخصوم وإلزامهم بنتائج «شنيعة» يدعي أنها تنتج عن موقفهم، وإظهارهم بمظهر المتناقض أو المرتكب للمحال، والدفاع في الوقت نفسه، بصورة صريحة أو ضمنية، على وجهة نظر المذهب الأشعري. لقد سلك الغزالي في كتابه مسلكا معقدا يقوم في أبسط الحالات على الخطوات التالية: - يعرض وجهة نظر «الفلاسفة»، كما يستخلصها من كتب ابن سينا بالطريقة التي يريد والترتيب الذي يفضل، يعرضها بـ «التقسيط» بأسلوبه هو، وكما فهمها، أو يريد لها أن تفهم! وهو لا يذكر ابن سينا ولا الفارابي ولا غيرهما من فلاسفة الإسلام إلا نادرا، وإنما يتكلم في الغالب عن «الفلاسفة» بضمير الغائب: «قالوا»، «فإن قالوا»، «فإن قيل» .. إلخ. - وفي أحيان كثيرة يبدأ بتحديد عدد أوجه الاعتراضات التي سيوجهها لهم، ليشرع في الاعتراض الأول أو «الوجه» الأول منه. - ثم يذكر ما يعتبره جوابا لـ «الفلاسفة» على اعتراضه ذاك. وفي الغالب يستقي هذا «الجواب» من استدلالات ابن سينا على القضية المطروحة وبراهينه عليها. - ثم يرد على هذا الاعتراض، إما بمجرد التشكيك، وإما بتقديم وجهة النظر التي يريد طرحها كبديل، وهي وجهة نظر الأشاعرة. وغالبا ما يلجأ إلى أسلوب «المقايضة»، فيوجه الكلام إلى خصومه قائلا: كما لم تقبلـوا منا كذا فنحن لا نقبل منكم كذا، أو اقبلوا منا كذا كما تقبلون كذا .. إلخ. ثم يفترض أن خصومه الفلاسفة اعترضوا عليه اعتراضا يركّبه هو، أو يستقيه من استدلالات ابن سينا. ثم يرد على هذا الاعتراض .. إلخ. أما ابن رشد فهو يتدخل تارة في جميع هذه المراحل أو جلها ليصحح أو يرد .. إلخ، وتارة يترك الغزالي حتى ينهي كلامه في القضية ـ موضوع النقاش ثم يتدخل ليحلل ويصحح. وهو لا يعترض من منطلق مذهبي معين، بل يركز على ما في الدعاوى المطروحة من ضعف منطقي أو من مخالفة لما يقول به الفلاسفة (أرسطو تحديدا)، أو لينبه إلى أن ما يقوله الغزالي لا يمثل رأي ظاهر النصوص الدينية: القرآن والحديث، وأن الأمر يتعلق بتأويل خطأ. من هنا صعوبة التعامل مع الكتاب، فالكلام فيه مختلط. ولا بد للقارئ من الانتباه إلى من يتكلم: هل الغزالي؟ وهل يتكلم باسمه أم باسم «الفلاسفة»؟ هل ابن رشد هو الذي يتكلم؟ وعلى من يرد؟ هل يعترض على الغزالي أم يعترض على ابن سينا؟ هل يعني أرسطو أم ابن سينا حينما يعرض رأي «الفلاسفـة»، الذين يسميهم أحيانا كثيرة بـ «الحكماء»، وأحيانا أخرى يطلق اسم «القوم» على من يتحدث عنهم، متكلمين كانوا أو فلاسفة .. إلخ.
إنشرها