Author

ضرورة التحرر من «الخطأ الموروث»

|
هناك أفكار وأحكام ومعارف يتلقاها كثير من الناس من مصادر يجهلونها، أو يجهلون قيمتها ودوافعها وميولها، فتكتسب قوتها ومصداقيتها من كونها ''موروث جماعي'' يتلقاه الناس ويتداولونه فيما بينهم بوصفه ''الحقيقة''، التي لا تناقش. إنـه ''الخطأ الموروث'' الذي يقول عنه بعض الناس: ''خطأ مشهور شائع خير من صواب مهجور''؛ علما بأن ''الخطأ الموروث''، مثله مثل ''الخطأ المشهور'' غالبا ما يقف عائقا أمام الإصلاح والتجديد وتجاوز الجمود على التقليد. من ذلك ما شاع وذاع طوال العصور الماضية من أن الغزالي وجه بكتابه ''تهافت الفلاسفة'' ضربة قاضية إلى الفلسفة فلم تقم لها بعده قائمة. وهذا من ''الأقوال الموروثة'' التي ملأت صفحات وصفحات نسجها ''الجهل المركب في التاريخ العربي''. لن نكرر هنا الحجة نفسها التي واجه بها كثير من المستشرقين هذا الادعاء الكاذب، حجة ازدهار الفلسفة في المغرب والأندلس، مباشـرة بعد الغزالي، مع كل من ابن باجة وابن طفيل وابن رشد؛ هذا شيء معروف وأكيد. ذلك أن ردود ابن رشد على الغزالي في الفلسفة وعلى الأشعرية في علم الكلام، تقدم ألف دليل على أن الفلسفة والعقلانية، في الثقافة العربية الإسلامية، عرفتا قفزة نوعية، تجاوزت، بل ''قطعت''، بوعي وإصرار، مع فلسفة ابن سينا و''كلام'' الغزالي، هنا في العالم الإسلامي كما في أوروبا اللاتينية. وما نريد إبرازه - فضلا عن ذلك - هو أن ازدهار الفلسفة في المغرب والأندلس بعد الغزالي لا يعني تجاهل ما حدث بالمشرق من تطورات، في المجال نفسه، تكذب ''الضربة القاضية'' المزعومة في موطن صاحب ''تهافت الفلاسفة''. ذلك أن ''الفلسفة'' التي وصَف الغزالي أصحابَها بـ ''التهافت''، وهي بالتحديد فلسفة ابن سينا، قد عمل هو نفسه على نشرها من خلال معارضته لها، فبقيت حية بعده تُوَظَّف التوظيف نفسه الذي مارسه بها وعليها صاحبها. ذلك أنه على العكس تماما مما هو شائع، فلم يكن لكتاب ''تهافت الفلاسفة'' للغزالي ذلك الأثر الذي يعزى له: فلم تتردد له أية أصداء تستحق الذكر، ما عدا إدراجه في قائمة كتبه من طرف بعض مؤرخي الطبقات الذين أرخوا له بوصفه واحدا من كبار فقهاء الشافعية. أما المفكرون الأشعرية الذين خلفوا الغزالي على ساحة علم الكلام والفلسفة فقد تجاهلوه تماما: لقد تجاهلوا ردود الغزالي على ابن سينا وبعضهم كتب ردودا أخرى بديلة، بعيدا عن الجدل والسفسطة التي اتسم بها كتاب الغزالي؛ وأكثر من ذلك تجاهلت هذه الردود البديلة تكفير الغزالي الفلاسفة تجاهلا تاما! ومـن المفارقات اللافتة للانتباه أن البديل الذي دافع عنه الغزالي، وباسمه كفر ''الفلاسفة''، أعني مذهب الأشعرية في علم الكلام ، قد لبس هو نفسه ''الفلسفة'' ولبسته، مباشـرة بعد الغزالي ببضعة عقود من السنين لا غـير، ليستمر ذلك ''التلابس'' لقرون طويلة. وكما لاحظ ابن خلدون فقد ''توغل المتأخرون (من متكلمي الأشعرية) في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين (في الفلسفة وعلم الكلام) فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما''. لقد أدلى ابن خلدون بهذه الملاحظة بعد وفاة الغزالي بنحو ثلاثة قرون! وهي تصدق على ما بعد صاحب ''المقدمة''، وعلى مدى أزيد من ثلاثة قرون أخرى. فما الذي حدث بالضبط خلال هذه القرون الثلاثة التالية لعصر ابن خلدون؟ لننوه أولا بموقف المعتزلة الذين حافظوا على ''أصالة'' مذهبهم كما على أصولهم والذين استمروا على عدائهم للفلسفة فلم يندمج منهجهم فيها ولم تندمج هي في مذهبهم، فقد توقف المعتزلة عند النقطة التي تركهم فيها كبار شيوخهم الذين عاشوا قبل ابن سينا، وآخرهم القاضي عبد الجبار، المتوفى سنة 415 هـ. هذا عن المعتزلة، أما الشيعة فإن مذهبهم قد لبس هو الآخر الفلسفة السينوية ولبسته. وقد تم لهما ذلك بحرية أكبر وبصورة أعمق. كيف لا، والشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا كان شيعيا إماميا متفتحا على المذهب الإسماعيلي الذي اعتنقه أهله وذووه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. لم تَـمُتْ الفلسفة التي عارضها الغزالي وكفر أهلها، بل عاشت بعده في المذهب الأشعري نفسه، كما في المذهب الشيعي: عاشت كما أرادها صاحبها، ابن سينا، أن تكون: بديلا عن علم الكلام. وبعبارة أخرى تحولت إلى فلسفة كلامية معلنة، إلى أيديولوجيا. لنوضح هذه الدعوى ببضعة أمثلة: 1- خصص الغزالي كتابه ''تهافت الفلاسفة'' للرد على ابن سينا أساسا. هذا شيء معروف ومتداول. ولكن السؤال الذي نريد طرحه هو التالي: لماذا توجه الغزالي بالخطاب والنقد والتجريح إلى ابن سينا بالذات (ولم يذكر الفارابي إلا بالعرض، كما يقول القدماء)؟ لماذا سكت سكوتا تاما ومطلقا عن الكندي، مع أنه كان فيلسوفا، وأقرب إلى المعتزلة خصوم الغزالي؟ ولماذا سكت عن فلاسفة آخرين مثل الرازي الطبيب الذي كان أبعـد، من ابن سينا والفارابي، عن مذهب السلف والمعتزلة والأشعرية والشيعة؟ يكفينا الآن أن نسجل أن رد الغزالي على ابن سينا لم يكن بريئا! وإلا، فلماذا تجند له وسكت عـن الآخرين؟ لقد كـان ردا أيديولوجيا، كما نقول اليوم. والرد الأيديولوجي خطـاب لا ينطق باسم الشخص المنتج له وحده، بل ينطق باسم الجماعة التي ينتمي إليهـا ذلك الشخص ويتحدث باسمها ولفائدتها، ضد جماعة أو جماعات أخرى. وهذا الطابع الأيديولوجي في الرد على ابن سينا بقي يتكرر بصورة لافتة للنظر، مع تكرار الرد المضاد المنافح عن ابن سينا، وذلك عبـر أجيال ثلاثـة متتابعة تلت الغزالي مباشرة. كتب الغزالي عرضا مبسطا وواضحا لفلسفة ابن سينا في كتابه ''مقاصد الفلاسفة'' تمهيدا، كما قال، لنقدها وبيان تناقضها. ومن هذا الكتاب، الذي كتب بروح حيادية لافتة للنظر، يتجلى مدى امتصاص الغزالي وهضمه الفلسفة السينوية، وذلك إلى درجـة يصعب معها تصور الغزالي يفكر خارج السنوية. فعلا، بقي الغزالي مشدودا إلى ''الفلسفة'' وعلومها، كما عرضها ابن سينا، ينشرها بصورة أو بأخـرى. لقد دعا بإلحاح إلى تبني المنطق الأرسطي بدلا من منهج المتكلمين، فألف فيه عدة كتب تحمل أسماء مختلفة، موجها الكلام إلى الأصوليين والفقهاء، بأن من لا يتقن المنطق (القياس الصوري الأرسطي) لا يوثق بعلمه. أما ما دعاه ابن سينا بـ ''الحكمة المشرقية''، التي وعد بتأليف كتاب فيها بنفس العنوان ولم يتممه، فقد تبنى الغزالي منطلقاتها وعبر عن آفاقها، بدرجات متفاوتة، في كتبه المعروفة بنـزعتها الصوفية الهرمسية: ابتداء من كتابه ''إحياء علوم الدين'' الذي أراد أن يجعل منه ''فقه الروح'' في مقابل ''فقه الرسوم'' (الشكليات)، فقه الفقهاء، إلى كتابه ''مشكاة الأنوار'' الذي تبنى فيه بوضوح الرؤية الغنوصية الهرمسية للكون وهي الرؤية التي تجد صيغتها ''العالمة'' في ''مذهب وحدة الوجود''. وهكذا فالغزالي الذي اشتهر بـ ''الرد'' على الفلاسفة، وعلى ابن سينا بالذات، كان سينويا في كل ما كان يعرفه في المنطق والطبيعيات والإلهيات، وفي كل ما ألف في هذه العلوم. لقد بقيت الفلسفة، وفلسفة ابن سينا بالذات، حية في قلب الغزالي نفسه. ومنه انتقلت إلى متفلسفة شيوخ المذهب الأشعري من بعده، وفي مقدمتهم محمد عبد الكريم الشهرستاني الذي رد على ابن سينا ردا فلسفيا خاليا من الخلفيات السياسية وذلك في كتابه ''مصارعة الفلاسفة''، ثم فخر الدين الرازي (ابن الخطيب)، خصوصا في كتابه ''المباحث المشرقية في الطبيعيات والإلهيات''، الذي قلنا عنه في مكان آخر، إنه يستعيد مشروع ابن سينا لتأسيس فلسفة مشرقية، ولكن داخل المذهب الأشعري لا خارجه! يلي ذلك كل من البيضاوي (توفي 685هـ) في كتابه ''طوالع الأنوار''، والإيجي (680-756 هـ) فـي كتابه ''المواقف في علم الكلام'' وشرح الجرجاني (740-816هـ) له، إضافة إلى حواشي السيلوكي والشلبي عليه (مما ضخم حجمه إلى أزيد من ألفي صفحة، فصار موسوعة في علم الكلام والفلسفة). وقد بقي المرجع الأساس في الدراسات الكلامية الفلسفية في الجامعات الإسلامية كالأزهر والقرويـين والزيتونة إلى القرن العشرين. أضف إلى ذلك مؤلفين آخرين اتجهوا اتجاه الدفاع عن ابن سينا، على مذهب الشيعة الإمامية، أمثال نصير الدين الطوسي (597-672هـ) الذي كتب يرد على كتاب ''مصارعة الفلاسفة'' للشهرستاني بكتاب يحمل عنوان ''مصارعة المصارع''. وكما تخرج على يد الرازي كثير من كبار الأشعرية الذين نشروا المذهب وذادوا عنه، كذلك كان الشأن بالنسبة للطوسي الذي تتلمذ عليه كثير من كبار علماء الشيعة الإمامة وفلاسفتها، مثل قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي (633-710) والحسين بن يوسف بن مطهر المحلى (648-727)... وتمتد سلسلتهم حتى النهضة الصفوية، مع مدرسـة أصفهان التي أسسها المير داماد والملا صدرا الشيرازي في القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي؟ إن الغزالي لم يوجه – كما قيل - ''ضربة قاضية'' للفلسفة، فلسفة ابن سينا. بالعكس لقد كانت ''الضربة القاضية'' التي رفعت الغطاء عن تهافت كل من ابن سينا والغزالي هي تلك التي وجهها لهما أبو الوليد ابن رشد، بكتابه ''تهافت التهافت''. وفي المقال التالي مزيد بيان.
إنشرها