حول التشكيك في مراجعات الجماعات الجهادية المصرية

منذ أن أعلنت الجماعة الإسلامية المصرية مبادرتها القصيرة لوقف العنف في الخامس من تموز (يوليو) عام 1997 والتي تحولت بعد ذلك بثلاثة أعوام فقط إلى حركة مراجعات شاملة امتدت إلى بقية الجماعات الجهادية المصرية، ظلت بعض الأصوات بداخل النخبة المصرية وبعض النخب العربية تطرح شكوكها حول القيمة الحقيقية لهذه المراجعات، وما إذا كانت تمثل بالفعل نهاية حقيقية لأفكار ومواقف العنف أم أنها مجرد مناورة وتقية تقوم بها تلك الجماعات بعد أن ضيقت عليها الدولة كل الأبواب والطرقات، لتعود بعدها إلى سابق فكرها المتطرف وممارستها العنيفة الإرهابية.
وعلى الرغم من تبني أغلبية واسعة من الكتاب والباحثين والمحللين في مصر وخارجها الرأي القائل بأن المراجعات في مجملها تمثل حدثاً إيجابياً وأنها تعبر عن تغييرات عميقة وواسعة وحقيقية في أفكار وممارسات الجماعات الجهادية السابقة مع احتفاظ كثير منهم بملاحظات وانتقادات لبعض جوانب المراجعات، فقد ظلت هناك أصوات أخرى قليلة العدد تتبنى رأياً مخالفاً يذهب إلى اعتبار المراجعات مجرد ''هدنة'' تأخذها تلك الجماعات لافتقادها القدرة لتعود بعدها للعنف والإرهاب فور امتلاكها في المستقبل. وذهب البعض الآخر من هؤلاء أو هم أنفسهم إلى اعتبار أنه لا مراجعات من الأصل قد حدثت، حيث يرون أن الجهاديين لا يزالون متمسكين بأفكارهم القديمة نفسها لم يغيروا فيها سوى بعض الصياغات العامة بما خدع الجميع الذين أغشى الحماس بصرهم عن هذه الحقيقة، بينما ذهب البعض الثالث، أو هم أنفسهم، إلى القول بأن الأمر كله لا يعدو كونها ''صفقة'' عقدها طرف ما في الدولة مع تلك الجماعات لإيقاف عنفهم مقابل الإفراج عنهم من السجون والمعتقلات دون أي تغيير حقيقي في قاعدتهم الفكرية المتطرفة. والحقيقة أن كل هذه الرؤى الرافضة لحقيقة المراجعات والموزعة اتهاماتها على من قاموا بها ومن رأوا فيها تغييراً جذرياً عميقاً، تفتقر لأي منطق علمي أو عملي يمكنه أن يصمد أمام قدر ولو يسير من التفكيك والنقد. والملاحظة الأولى على تلك الرؤى باختلاف زوايا رفضها، هي عدم تمييزها بين الحالات الخاصة والحالات العامة في تحليل مواقف الجماعات الجهادية السابقة، حيث من الوارد أن تنطبق معاني ''المناورة'' أو ''الهدنة'' أو ''الخديعة'' على أفراد أو مجموعات صغيرة تمارسها دون أن يفطن أحد إليها أو يعرف سرها، ولكن يزداد الأمر صعوبة ويصل إلى حد الاستحالة عندما يتعلق بجماعة ضخمة مثل الجماعة الإسلامية تصل عضويتها لعشرات الآلاف أو بجماعة الجهاد ذات المجموعات المتوسطة والصغيرة التي تتشكل منها، فإن تغيب هذه المؤامرة عن كل الأجهزة الأمنية والمراقبين والمحللين والكتاب والصحافيين والسياسيين في مصر، فهذا ليس له سوى معنى واحد وهو أننا أمام كيانات مصمتة مغلقة بالغة الذكاء تواجه مجتمعاً ونخبة مفككين وغاية في الغباء.
وعلى الصعيد الكلي للتحليل نفسه، يبدو واضحاً عدم إدراك أصحاب تلك الرؤى الرافضة للمراجعات والمشككة في صدقها بحديثهم عن التقية والعودة للعنف وأفكاره لثلاث حقائق جوهرية يدركها المتخصصون المدققون في طبيعة وتاريخ الحركات الإسلامية. تتعلق الأولى بطبيعة الجماعات الجهادية العنيفة من حيث كونها جماعات سنية المذهب تبالغ ليس فقط فيما تسميه الجهاد بل وأيضاً فيما تعتقد أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتستخدم اليد والسلاح من أجل تحقيق ما تعتقد أنه من صحيح الدين الإسلامي. وهذه الجماعات بطريقة تفكيرها المتطرفة هذه والمغالية في أفعالها وردود أفعالها تجاه ما تعتقد أنه خروج عن صحيح الإسلام وتعاليمه لا تقر أصلاَ بمبدأ التقية ولا أن يحول الاستضعاف دون قيامها بما ترى أنه الجهاد أو النهي عن المنكر، فهي في أضعف أحوالها تلتزم بما ترى أنه على الأقل الإعداد للقيام بهذين الأمرين. والحديث عن تقية أو تراجع عن العنف للاستضعاف لدى تلك الجماعات يعد في الحقيقة إقحام لخصائص ليس لها بها علاقة، فهي طريقة في التفكير والسلوك أقرب لجماعات إسلامية أخرى بعضها شيعي المذهب والآخر خارج المعسكر الجهادي.
أما الحقيقتان الثانية والثالثة فهما تتعلقان بما يتوقعه بعض من أصحاب الرؤى السابقة من عودة للجماعات الجهادية إلى فكر العنف وممارساته في المستقبل، وهما تتناقضان كلية مع هذا الزعم. الحقيقة الثانية في هذا السياق هي أن 12 سنة مرت منذ قيام الجماعة الإسلامية بآخر عملياتها الإرهابية في مصر، ولم يحدث من وقتها أي اختراق ولو صغير من أعضائها لأي قانون في البلاد، ولا يعقل أن ينتظر هؤلاء الجهاديون المتسترون أكثر من ذلك للكشف عن نيتهم الحقيقية، فمتى سيجاهدون إذا لم يجاهدوا اليوم مع كل إخوتهم من أعضاء وأنصار تنظيم القاعدة الذين يضربون في كل مكان تصل إليه أيديهم؟ وتنصرف الحقيقة الثالثة والأخيرة إلى مدى زمني أطول، حيث من الثابت أنه لم يحدث خلال الأعوام الـ 80 الماضية أن تحول إسلاميون من معسكر العنف إلى معسكر السياسة ثم عادوا إليه، وذلك عدا استثناءات فردية قليلة لا يمكن أن تقام عليها نتيجة نظرية. بل أكثر من ذلك، ففيما عدا حالات أخرى نادرة، منها سيد قطب وشكري مصطفى من الإخوان المسلمين، لم يحدث أن انتقل إسلاميون سياسيون سلميون إلى معسكر الإسلام الجهادي، في حين انتقل عشرات الآلاف من هذا المعسكر الأخير لمعسكر الإسلام السياسي السلمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي