Author

من «التصوف السني» .. إلى المشايخ والطرق

|
عندما كنا نتحدث عن «العرفان» في المقالات السابقة فإننا عنينا العرفان الشيعي، والإسماعيلي بكيفية أخص، أما العرفان الصوفي فلقد سكتنا عنه بسبب اختلاف وضعه ووظيفته، كما سنبين في هذا المقال. ما يجب تسجيله بداية هو أنه منذ العصر العباسي الأول والمتصوفة في منافسة حادة مع الشيعة: يضايقونهم وينافسونهم على «العرفان»، ويتبنون الهيكل العام لمدينتهم الروحية مجردا عن الوظيفة السياسية التي منحتها له الإسماعيلية، كما نافسوهم على أئمتهم الأوائل، ولكن في إطار ديني فقط. إن التداخل الفكري بين غلاة الشيعة وأئمتها إلى زمن جعفر الصادق من جهة، وبين المتصوفة من جهة ثانية، حقيقة تاريخية لا غبار عليها؛ ولم يبدأ الانفصال بين الطرفين إلا بقيام القطيعة النهائية بين الدولة العباسية والمعارضة الشيعية مع ظهور الحركة الإسماعيلية، الباطنية. حينئذ فقط وجد المتصوفة أنفسهم إزاء اختيار: إما «الخروج» على الدولة، وإما العمل معها أو على الأقل عدم التعرض لسياستها. هكذا أخذ يتبلور ما سيعرف فيما بعد بـ «التصوف السني»، أي التصوف الذي يتحرك داخل أيديولوجيا دولة أهل السنة، وبالخصوص خارج الحركات الباطنية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد من التذكير هنا بأن العصر الذي ظهرت فيه الباطنية وحصلت فيه القطيعة بين الشيعة والمتصوفة هو عصر المأمون والمعتصم، العصر الذي جرت فيه»محنة» ابن حنبل وزملائه بسبب قضية «خلق القرآن»؛ وهو كذلك عصر «تقنين الرأي» في الفقه مع الشافعي. أضف إلى ذلك ما عرفه هذا العصر من صنوف «الفتن» السياسية (الحرب الأهلية بين المأمون وأخيه الأمين، الثورة الخرمية .. إلخ). ومن دون شك فلقد كانت هذه التناقضات والصراعات والحروب مدعاة للحيرة والشك، والوقوع في «أزمات» فكرية. كان الحارث بن أسد المحاسبي (165 - 243هـ)، المحدث والفقيه والمتكلم، من أولئك الذين انعكست أزمة العصر في نفوسهم فعانوا منها في حياتهم الروحية والمادية. كان المحاسبي واعيا لهذه الأزمة وحاول تجاوزها باللجوء إلى التصوف، تماما مثلما فعل الغزالي بعده بنحو ثلاثة قرون... يقول المحاسبي في سياق عرضه لأزمته الفكرية: «إني تدبرت أحوالنا في دهرنا هذا (…) فرأيت زمانا مستصعبا قد تبدلت فيه شرائع الإيمان، وانتقضت فيه عرى الإسلام (…). ثم يضيف: «على أن الله لم يُخْلِ دنياه من غرباء على عصرهم ينتمون إلى فرقة الرسول الناجية (…) – وقد - قيض لي الرؤوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا (…) فأصبحت راغبا في مذاهبهم مقتبسا من فوائدهم (…) ففتح الله علي علما اتضح لي برهانه (…) فاعتقدته في سريرتي وانطويت عليه بضميري وجعلته أساس ديني». لقد ركز المحاسبي على ما سيسميه الغزالي فيما بعد بـ «علم المعاملة»، فانشغل بالتأليف في الزهد والخشوع والتوبة وأحوال النفس. وقد بلغ «القمة» في هذا المجال بكتابه «الرعاية لحقوق الله» الذي يعتبره النقاد، قديما وحديثا، أحد أهم مصادر الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين». أما «علم المكاشفة» - باصطلاح الغزالي - فقد ألّف فيه المحاسبي كتاب «ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه»، حاول أن يعطي فيه لـ «العقل» معنى عرفانيا بالاعتماد على تأويل شبه باطني لنصوص الكتاب والسنة. فليس العقل «معرفةً نظمها الله ووضعها في عباده يزيد ويتسع بالعلم المكتسب»، ولا هو استدلالٌ بالشاهد على الغائب، كما يقول المتكلمون، بل هو «غريزة» يعيها الإنسان في ذاته بالعقل من الله، أي بالأخذ منه، لفهم بيان الله إلى الناس: سواء كان البيان في صورة «عيان ظاهر»، حيث «تبين الأشياء للناظر المتوسم والعاقل المتبين بذواتها ويعجب من تركيب الله فيها وآثار صنعته في ظاهرها»، أو كان في صورة «خبر قاهر» من كتاب أو سنة. وإضافة إلى هذا العقل الذي هو «فهم البيان» والذي يستوي فيه «أهل الهدى وأهل الضلالة»، هناك ما يتميز به أهل الهدى من بصيرة ومعرفة يفهمون بها «حقائق معاني البيان»، ويعقلون «عظم قدر الله (…) وعقابه وثوابه»، فيهابونه ويشتاقون إليه ويتوصلون إلى معاينته كما تعاين العين الأشياء التي تبصرها». لقد أثار المحاسبي بهذا الموقف «العرفاني» عداء جميع الأطراف عليه: عاداه المعتزلة لأنه هاجمهم ووصفهم بـ «أهل البدع»، وعاداه الشيعة لأنه كان ضدهم سياسيا وعقائديا واتهم فريقا منهم بالكفر، وعاداه الفقهاء لأنه انتقدهم بسبب انصرافهم عن «علوم القلب» إلى الجدل والانشغال بالفتيا والقضاء. أما الصوفية فعلى الرغم من تفضيله لهم وانتسابه إليهم فقد تحفظوا منه لأنه لم «يقطع» مع علم الكلام بل بقي «يدنس نفسه» به. على أن أشد الناس قساوة عليه هم الحنابلة : فعلى الرغم من أن الإمام أحمد بن حنبل قد نظر بعين العطف إلى ورع المحاسبي وتقواه فإنه لم يُخْفِ تضايقه من آرائه، ولا وقوفه ضد منهجه وطريقته في فهم «البيان». لقد هجر ابن حنبل المحاسبي وصد الناس عنه، حتى اضطر إلى الاختفاء في داره إلى أن «مات فيها ولم يصل عليه إلا أربعة نفر». لم ينهزم التصوف أمام ما تعرض له من مضايقات بل لقد سار في اتجاه التوغل في الباطنية، فظهر المتصوفة المعروفون بـ «أصحاب الشطحات» كالبسطامي (المتوفى سنة 261هـ) وبرز أصحاب «الوحدة»: وحدة الشهود ووحدة الوجود. كما ظهر بين المتصوفة من استخف بالواجبات والشعائر الدينية متذرعا بانشغاله بمراقبة الله مراقبة روحية. وكان من نتيجة ذلك كله أن ترسخت العداوة بين الفقهاء والمتصوفة مما كان سببا في تعرض هؤلاء لسلسلة متواصلة من الاضطهادات والمحن. من النتائج التي أسفرت عنها الحملة التي شنها الفقهاء على المتصوفة لجوء هؤلاء إلى الانتظام في جماعات و»طُرُق» لكل منها شيخها، فتحول التصوف من تجربة ذاتية يعيشها الفرد إلى «مملكة روحية» منظمة تنظيما هرميا يستنسخ في هيكله العام التنظيمات الشيعية الإسماعيلية: قالوا بـ «المنازل» وبـ «الولاية»، على غرار «الإمامة» عند الشيعة، ونسبوا نوعا من العصمة لأوليائهم وجعلوا من «القطب» - أو «الغوث» - المعلم الأكبر، ثم قالوا بـفكرة «الحقيقة المحمدية» التي بنوا عليها نظاما للوجود يستنسخ نظام السبعية الإسماعيلية. ليس هذا وحسب، بل لقد نافس المتصوفة الشيعة وضايقوهم حتى في مجال الانتساب إلى علي بن أبى طالب فأعطوا مفهوم «أهل البيت» معنى واسعا يشمل المسلمين جميعا، فهادنوا الدولة، بل خدموها إذ كانوا لا يجيزون الخروج على الولاة بالسيف ولو كانوا ظلمة. ربما كان هذا الموقف المزدوج الذي سلكه المتصوفة، هو الذي جعل الأمور تتجه نحو تقويم جديد للتصوف من جانب أهل السنة الأشاعرة، والعمل بالتالي على إعادة كتابة تاريخه بالشكل الذي يضفي عليه المشروعية «السنية». وهكذا ظهر مؤلفون عملوا على إعادة كتابة تاريخ التصوف قصد المصالحة بينه وبين «السنة»، من أبرزهم السراج الطوسي (متوفى 378هـ) صاحب كتاب «اللمع»، والكلاباذي (380هـ) صاحب «التعرف لمذهب أهل التصوف»، وأبو طالب المكي (386هـ) صاحب «قوت القلوب»، والسلمي (412هـ) صاحب «طبقات الصوفية» والقشيري (465هـ) صاحب «الرسالة» المشهورة... من الأمثلة على ذلك ما فعله الكلاباذي الذي رجع بمعنى كلمة «الصوفية» إلى «أوصاف أهل الصُّفَّة الذين كانوا على عهد رسول الله»، أو إلى الصوف «لباس الأنبياء وزي الأولياء» من جهة، والذي ربط نسبهم الروحي بعلي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين، ثم بأبي موسى الأشعري والحسن البصري. ثم أخذ في شرح قولهم في التوحيد والصفات، فألبس المتصوفةَ لباسا أشعريا مناهضا لآراء المعتزلة، فقال عنهم إنهم «أجمعوا» على أن القرآن ليس بمخلوق، وأن الله يُرى بالأبصار في الآخرة، وأنه خالق أفعال العباد، وأنه خلق فيهم الاستطاعة، وأنَّ لهم بسببها أفعالا واكتسابا، وأنه يفعل ما يشاء بعباده، «كان ذلك أصلح لهم أو لم يكن»، إلى غير ذلك من أساسيات المذهب السني الأشعري التي يجعل الكلاباذي المتصوفة «مجمعين» عليها، إضافة إلى وصفه (المتصوفة) بأنهم «يأخذون لأنفسهم بالأحوط والأوثق فيما اختلف فيه الفقهاء، وأنهم مع إجماع الفريقين ما أمكن، ويرون اختلاف الفقهاء صوابا، ولا يعترض الواحد منهم على الآخر، وكل مجتهد عندهم مصيب». بعد ذلك ينتقل إلى الكلام عن علوم الصوفية التي تبدأ بـ «تصحيح الأعمال» بمعرفة الأحكام الشرعية من أصول الفقه وفروعه قبل الخوض في «علوم الخواطر وعلوم المشاهدات والمكاشفات» التي يعرضها الكلاباذي بتركيز واحتياط كبيرين، وبالصورة التي تجعلها لا تصطدم بالعقيدة السنية الأشعرية. إن كتاب «التعرف» للكلاباذي فتوى فقهية ذكية لإدخال التصوف في دائرة «الحلال» بل في دائرة «المستحب» من وجهة نظر أكثر أهل السنة تشددا. لكن التصوف لم يقف عند هذا الحد، بل لقد تحول بعد حصوله على «الشرعية السنية» إلى مؤسسات دينية اجتماعية وسياسية ينتظم أعضاؤها في خانقاهات (=تكايا=ربط) يديرها شيوخ ترعاهم الدولة, وفي الوقت نفسه تستعملهم لـ «تأطير الجماهير» روحيا وبالتالي سياسيا. قال الوزير السلجوقي الشهير نظام الملك لسلطانه الذي عاتبه على الإنفاق بسخاء على المتصوفة: إني «أقمت لك جيشا يسمى جيش الليل، إذا نامت جيوشك ليلا قامت جيوش الليل على أقدامها صفوفا بين يدي ربهم فأرسلوا دموعهم وأطلقوا ألسنتهم ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك (…) فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تمطرون وترزقون»! وتقول الرواية «فقبل ملك شاه وسكت».
إنشرها