«الأمركة» سبب انهيار 2008م وليست «العولمة»
فارق كبير بين العولمة والأمركة.. فالعولمة هي طريق مزدوج ''ذو اتجاهين''، في حين أن الأمركة هي طريق ذو اتجاه واحد. ماذا يعني هذا؟ وما علاقة كل هذه السفسطة بما عايشناه من انهيار؟ نعم.. لو كان العالم يعيش عولمة حقيقية على مدى العقود الثلاثة الماضية لما حدث الانهيار، ولكن نظراً لأن الاقتصاد العالمي يرتبط عبر طريق واحد (وكمتلق فقط) بالاقتصاد الأمريكي والسياسة الأمريكية، بل وبالعادات والقيم والثقافة وحتى السينما الأمريكية. نعم، لو كان طريقاً مزدوجاً يربط الدول كافة ببعضها البعض، لانحصر الزلزال وتوابعه في حدود الجزيرة الأمريكية، أو على الأقل لوجد الرؤى المتعددة التي منعت وجود فرصة لحدوث انهيار مدو كهذا.
في الحقيقة، أنا لست أول من لام النظام الاقتصادي العالمي السائد منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، فقد سبقني مفكرين وباحثين كثر، وأغلبهم ليسوا عرباً، بل أغلبهم أوروبيون وأمريكيون، أدركوا خطر استمرار هذا النمط الأعرج، لما يمكن أن نسميه تجاوزاً بـ ''العولمة''. وكما سبق أن أسلفت - في أكثر من مقال سابق في هذه الجريدة الغراء - أن من السذاجة قصر انهيار 2008م على كونه انهيار بنوك، فهذه نظرة قاصرة جداً، وبعيدة كل البعد عن الرؤية الاقتصادية الشاملة والمتعمقة. فما حدث وما سيحدث ـ إذ إن القصة لم تنته بعد ـ ليس سوى تبعات لهذا النظام العالمي المعيب، وليس أكثر من كونه عرضا لمرض عضال، أصاب الجسم الرأسمالي في الصميم. وعندما يصبح الجسم واهناً، يصير فريسة سهلة وعرضة للسقوط والانهيار حتى من نوبة برد عادية. من ثم، فهو ليس في حاجة إلى إنفلونزا الطيور أو الخنازير لكي تسقطه.
لقد حذر الكثير من المفكرين الفرنسيين والإنجليز من تفوق الثقافة والقيم واللغة الأمريكية على حساب الثقافات والعادات، بل واللغات المحلية. نحن لسنا ضد الولايات المتحدة أو ثقافتها، فنحن في حاجة إليها، ولكن ينبغي ألا يكون هذا على حساب ثقافاتنا وقيمنا وقيم باقي الأمم. أتدرون أنه في كل عام تندثر عشرات اللغات المحلية في الكثير من الدول لحساب اللغة الإنجليزية، بل تتخلى الكثير من المجتمعات عن ثقافاتها وقيمها الأصيلة لحساب القيم والعادات الأمريكية؟ ولنا في الكثير من دولنا العربية، بل الخليجية العبرة والمثل، فلو أتينا بمواطن خليجي مات منذ 30 أو 40 عاماً فقط وقلنا له هل تصدق أن هؤلاء هم أحفادك لسقط مغشياً عليه، والعينة بينة كما يقولون، كل هذا أتى على حساب قيمنا العظيمة وثقافتنا الغنية التي بدأت في الاندثار على الأقل بين أغلب شبابنا.
أما العولمة في مفهومها العلمي، فهي وضع عالمي يسمح بتدفق مختلف العادات والقيم والثقافات والعلوم فيما بين المجتمعات دون قيود تذكر. ومن ثم فهي لا تقتصر على الشأن الاقتصادي أو التجاري بحسب ما هو شائع، فهل عايش عالمنا - بحرية - هذا التعريف الشامل المتكامل؟ مع الأسف الإجابة بالنفي، حيث تحرك عالمنا - تدريجياً - خلال العقود الثلاثة الماضية نحو اعتناق (راغباً أم راهباً) كل ما هو أمريكي. ومن ثم فهو طريق ذو اتجاه واحد، وما كان له أن يفضي إلا إلى كارثة، توقعها قلة من المفكرين، ولكن كُبِت صوتهم، وأُهمِل فكرهم حتى وقعت الواقعة.
فالاقتصاد الأمريكي وعلى الرغم من كونه يتخلخل من الداخل، بعد تحوله إلى اقتصاد ريعي، يغرق في مراهنات ومقامرات اللاعبين في أسواق الأسهم أو العقار، إلا أنه ـ كما تظهر أفلام هوليوود ـ حاول الظهور بمظهر السيد القوي المتفرد، فالبناء كان يتآكل تدريجياً من الداخل، لهذا هل يستطيع أحد أن يجيبني عن سؤال مهم: أين كانت الدولة ومؤسساتها ''ذات الأسماء المرعبة'' خلال سنوات ترعرع فيها الكابوس المالي وتوارت فيها قطاعات الإنتاج الحقيقي؟.. هل من المنطق أن يشكل قطاع الاستثمار المالي والعقاري أكثر من 20 في المائة من الناتج المحلي في بلد كالولايات المتحدة، في حين تشكل قطاعات الإنتاج السلعي أقل من 15 في المائة؟
تعلمنا في الأدب الاقتصادي أن الرأسمالية الأمريكية هي أكثر صور الرأسمالية تطرفاً وجموحاً، وقد ازداد جموحها بعد انهيار الاشتراكية عام 1989، الذي اعتُبِر انتصاراً ساحقاً للرأسمالية. اجتهدت الولايات المتحدة لتصدير هذا النمط المتطرف إلى باقي دول العالم من خلال المؤسسات التي يوكل إليها حالياً مسؤولية إدارة الأزمة! وفي سبيل إنجاح مسيرة الأمركة تم إغلاق جميع الطرق التي يمكن أن تسمح بميلاد أيدلوجية أخرى تحقق التوازن، بل عن الرؤية الإسلامية تم وأدها في مهدها، ومن يبحث عن دليل عليه قراءة كتاب ''نهاية التاريخ وخاتم البشر لفرانسيس فوكوياما'' و كتاب ''صِدام الحضارات لهانتجتون''. أكرر.. نعم انهارت البنوك وانهيار البنوك ترتب عليه انهيار شامل، ولكن لماذا تركت البنوك لتفعل ما تفعل؟ فلو كان الجسم الأمريكي قوياً هل كان سيحدث الانهيار؟ فالمريض (الاقتصاد الأمريكي) كان على فراش المرض رغم تظاهره بكمال الصحة، وكان فريسة سهلة لأي عارض طارئ ليقضي نحبه.
لقد ظللنا طوال الأشهر الماضية نتحدث عن العَرَض وتركنا أصل المرض. لا يمكن أن يستقيم الوضع إلا إذا أجرينا تطويراً شاملاً على النظام الدولي ومؤسساته، بحيث نستطيع أن نعيش في ظل عولمة حقيقية وليس مجرد أمركة تتخفى تحت ستار العولمة. نحن في حاجة إلى عولمة تحترم الثقافات والقيم والعادات كافة، فالتنوع نعمة من أفضل النعم التي أنعم الله بها علينا، ولنا أن نتخيل طعم حياتنا في حال حصرنا أنفسنا في ثقافة بعينها أو أيدلوجية بذاتها. من واجبنا كدول نامية وصاعدة أن ننتهز الفرصة لنرفع صوتنا ونقولها صريحة ''لقد فشلت تجربتكم''، الذي أتى كنتيجة منطقية لنظام عالمي أعرج، حرر السلع ولم يحرر البشر. نظام وضع القرار بيد قلة من الدول نعرف جميعاً تاريخها الاستنزافي والاستعماري، وجعل من باقي الأمم أداة طيعة لتستمر رحلة الاستنزاف، ولتبقى دول المحيط تدور في فلك دول المراكز.
إذاً المشكلة أكبر من أن تكون مجرد انهيار بنوك، إنها مشكلة نظام عالمي جائر، انصاع لأهواء وأفكار قلة ادعوا أن منهجهم فيه الخلاص والرفاهية للبشرية جمعاء، فقد كتب فرانسيس فوكوياما في مؤلفه (1989م) المشار إليه سلفاً وبعبارة صريحة ''إنها نهاية التاريخ والانتصار الأبدي للرأسمالية''، بل لقد كتب كلاماً في غاية الخطورة، شكل ركيزة مقنعة، اتكأ عليها أمراء الحرب في الغرب خلال العقد الماضي، لهذا وقعت الواقعة، فلم يكن الاقتصاد اقتصاد تنمية، ولكنه اقتصاد صراع وحروب بين العالم التاريخي (الدول التي تأبى أن تتقدم وهي تحديداً الدول الإسلامية كما وصفها صراحة فوكوياما) وعالما ما بعد التاريخ (وهي دول الحضارة الغربية)!
نستطيع من خلال هذا العرض، الذي لجمت فيه لساني وقلمي قدر استطاعتي، القول إن عالمنا يمر بمرحلة مخاض تاريخية، فهل نحن مؤهلون لتحويلها إلى عولمة حقيقية يُحترم في ظلها الجميع وتسودها الوسطية وتتعارف من خلالها الأمم كما ورد في كتاب الله عز وجل, أم أننا وصلنا إلى مرحلة من الوهن جعلتنا غير قادرين على أن نصبح فاعلين؟ سؤال مفتوح ستجيبنا عنه الأشهر والسنوات المقبلة. وكل أزمة وأنتم طيبون.
أستاذ الاقتصاد ومستشار اقتصادي
[email protected]