Author

ابن سينا .. والغزالي الذي ابتلعه فما استطاع رده من بطنه..!

|
تحدثنا في المقال السابق عن لجوء الدعوة الإسماعيلية في فارس وخراسان إلى بناء المدارس لنشر أيديولوجيتها وتكوين الكوادر استعدادا لمد هيمنتها السياسية من «إفريقية» ومصر إلى المشرق وعاصمته بغداد. كان ذلك في الوقت الذي كانت قد تبلورت في بغداد (مع متى والفارابي أوائل القرن الرابع الهجري) مدرسة منطقية مشائية (تابعة لعقلانية أرسطو ومضادة للباطنية والهرمسية). وعندما انتهت رئاسة المنطقيين في بغداد إلى أبي سليمان المنطقي معاصر ابن سينا كانت المدرسة المشرقية في خراسان (المعادية لأرسطو) قد انتهت رئاستها إلى ابن سينا وأفراد من عائلته. ولا يخفي ابن سينا ارتباطه بالمدرسة الإسماعيلية، فهو يخبرنا أن أباه وأخاه كانا «ممن أجاب داعي المصريين» أي الفاطميين، وأن جماعة من الدعاة الإسماعيليين كانوا يترددون على بيت والده وأنه كان يسمع منهم كلاما في «النفس والعقل»، وأنهم قد دعوه إلى اعتناق مذهبهم، غير أن نفسه - كما يقول - لم تكن تميل إلى ذلك. وقد ذكرنا في المقال السابق أنه تبنى مذهب الشيعة الإمامية وصار وزيرا لدى أحد وزرائهم. وإذا كنا قد وقفنا هنا مع أقطاب المدرسة الفلسفية الهرمسية الإسماعيلية في خراسان وفارس فذلك من أجل تبيان هوية من أسماهم ابن سينا بـ «المشرقيين»، وبيان طبيعة المناخ الفكري الفلسفي العام الذي طبع فكره وألهمه مشروع ما أسماه بـ «الفلسفة المشرقية» (في مقبل الفلسفة المشائية الأرسطية)، بل أيضا - وهذا ما يهمنا هنا أكثر - من أجل التعرف على المصير التي آلت إليه الفلسفة الإسماعيلية في مهدها. ذلك أنه إذا كان ابن سينا، منظورا إليه من زاوية انتظامه داخل الثقافة العربية في سلك تراث الكندي والفارابي، - تراث تنصيب العقل الكوني فيها - يمثل لحظة انفجار تناقضات العقلانية المعتزلية والأشعرية مع أزمة «الأحوال»، كما بينا ذلك من قبل، فإنه - أي ابن سينا نفسه - منظور إليه هذه المرة من زاوية تتويجه للمدرسة الفلسفية «المشرقية» الإسماعيلية المنشأ، يمثل لحظة تأزم بل فشل الحركة الفكرية الإسماعيلية في خراسان وفارس. وكما بينا ذلك من قبل فقد استهدفت هذه الحركة في أول أمرها السيطرة الفكرية وصولا إلى السيطرة السياسية، ولكن استراتيجيتها التي قامت على أساس نشر الفكر الباطني الهرمسي المضاد للمنطق والفلسفة العقلانية، وفي الوقت نفسه الترويج للعلوم اليونانية في صيغة العامية التي سميت بالعلوم السرية»، قد أدت (هذه الاستراتيجية) في نهاية الأمر إلى «ذوبان» المذهب الإسماعيلي في الفلسفة الباطنية. وكان ذلك بطبيعة الحال على حساب السياسة، فانقلبت الوسيلة إلى غاية، ولم يبق من ملامح الأيديولوجيا الإسماعيلية في فلسفة ابن سينا سوى تلك التطلعات نحو «المدينة الروحانية»، التي جعلها أصحاب رسائل إخوان الصفا رمزا للمدينة السياسية التي كانوا يحلمون بها. لقد انتصرت الهرمسية في شخص ابن سينا على الاستراتيجية الثقافية الإسماعيلية حين فرضت مدينتها الروحانيةَ غايةً بعد أن كانت مجرد وسيلة، فأصبحت «اللذة العليا»، التي حدثنا عنها ابن سينا في تصوفه القائم على نوع من وحدة الوجود، (حديثا موزعا في عدد من كتبه)، بديلا عن الثورة المسلحة: الهدف الأول والأخير للحركة الإسماعيلية. هكذا وضعت فلسفة ابن سينا المشرقية هذه الحركة، في فارس وخراسان، في تناقض مع نفسها، فأصبحت تعاني هي الأخرى «أزمة الأسس». لقد فشلت محاولات دعاتها الرامية إلى ضم الأقاليم الإيرانية إلى الدول الفاطمية عن طريق استمالة الأمراء المحليين. وعندما تسلم البويهيون، وهم من الشيعة المعتدلة، زمام السلطة في بغداد فضل رؤساؤهم ممارسة السلطة الفعلية باسم الخليفة العباسي بدل التنازل عنها للخليفة الفاطمي. وإذا كان بعض الأمراء البويهيين قد سمحوا أحيانا للدعاة الإسماعيليين بالتحرك علنا في العراق وفارس، فإن الدولة الغزوينية والدولة السلجوقية السنيتين اللتين قامتا على أنقاض الدولة السامانية، قد شنتا حملة واسعة رهيبة ضد الدعاة الإسماعيليين وأتباعهم فشردتهم وقتلتهم وأحرقت دور كتبهم. وقد امتدت الحملة إلى العراق والشام بعد أن استولى السلاجقة على بغداد سنة 447 هـ وحصل زعيمهم طغرل بك على لقب «السلطان» من طرف الخليفة العباسي القائم بأمر الله (422 - 467 هـ). كان من الطبيعي إذن أن تراجع الحركة الإسماعيلية في العراق وإيران أسلوب عملها. لقد فشلت سياسة «التفتح» والعمل من أجل الهيمنة الفكرية واستمالة الأمراء المحليين فلم يبق إلا العمل السري. وهذا ما لجأت إليه بقيادة حسن الصباح. لقد دخل هذا الرجل أول الأمر في خدمة السلاطين السلاجقة غير أن الوزير نظام الملك ارتاب فيه فطرده... التحق حسن الصباح بمصر حيث سطع نجمه وأثار مخاوف بعض كبار رجال الدولة الفاطمية لمنافسته إياهم فعملوا على سجنه وطرده فعاد إلى فارس، حيث انكب على تنظيم الحركة الإسماعيلية تنظيما سريا محكما على أساس الولاء الشخصي. وقد تمكن من الاستيلاء على كثير من القلاع الحصينة وفي مقدمتها قلعة «الموت» التي جعلها مقرا له ابتداء من عام 483 هـ. وعندما بويع الخليفة الفاطمي المستعلي بالله (487 - 495 هـ)، بعد وفاة أبيه الخليفة المستنصر، بدل أخيه أبي منصور نزار الذي كان وليا للعهد، انضم حسن الصباح إلى المناهضين للمستعلي، المناصرين لنزار. وعندما قُتل هذا الأخير في القاهرة سنة 488 هـ أصبح حسن الصباح زعيم الحركة الإسماعيلية الجديدة «النزارية» في العراق وفارس وأخذ يدعو إلى «الإمام المستور» بعد أن كانت الدعوة من قبل إلى الخليفة الفاطمي الظاهر. لقد نصب حسن الصباح نفسه نائبا للإمام وارتكز على مبدأ «التعليم»، أي ضرورة الأخذ من «المعلم»: (الإمام المعصوم). وهكذا طرح جانبًا الدعوَة الفكرية النظرية واتخذ من مبدأ «التعليم» وسيلة لربط الأتباع بحركته معتمدا السيطرة السيكولوجية وإحكام التنظيم. وقد حقق بذلك نجاحا خارقا مما مكنه من إنشاء تنظيمات سرية محكمة زرعت الخوف والإرهاب في أوصال الدولة السلجوقية وبلاط الخلافة العباسية، بما قامت به من أعمال «فدائية» (اغتيالات: كانوا يستقطبون الشباب واعدينهم بالجنة في الدنيا قبل الآخرة. كانوا يسكرونهم غفلة (يحششونهم) ثم يدخلونهم بساتين أعدت على غرار بساتين وأنهار الجنة، ثم بعد ذلك يزيلون عنهم المخدر، ويوقظونهم وفي أذهانهم صور الجنة... إلخ، ليشكلوا منهم عصابات انتحارية «الفداوية» زرعوا الرعب في العاصمة بغداد وما حولها.كان رد فعل الوزير السلجوقي نظام الملك عسكريا وثقافيا: فمن جهة, جند عساكر لمقاتلة «العصابات» الصبّاحية المسلحة، ومن جهة أخرى، جندت جماعة من الفقهاء والمتكلمين مكلفين بإبطال نظرية «المعلم» و»التعليم»، أساس دعوة الحسن الصباح، وبيان تهافت الفلسفة، ابن سينا التي كانت حاضرة تحتل موقع «الخلفية العلمية الحكمية للأيديولوجية الإسماعيلية في ذلك الوقت. وكان أبو حامد الغزالي أبرز من جند للقيام بالمهمتين معا. كانت مهمة الغزالي إذن هي التشهير بـ «فضائح الباطنية» التعليمية من جهة، وبيان تهافت «الفلاسفة» الذين حاولوا بناء فلسفة مشرقية خاصة، منافسة الفلسفة المشائية الأرسطية ومضادة لها. لم يكن الغزالي يعرف الفلسفة وإنما «ابتلع» بسرعة ما كتبه ابن سينا كعرض للفلسفة المشائية توجّهَ به «للجمهور»، محتفظا لغير الجمهور (المتصوفة خاصة) بفلسفة حكمية خاصة سماها «الحكمة المشرقية». فلسفة أهل المشرق: خرسان وما إليها. فعلا لم يستطع الغزالي أن «يتقيأ» فلسفة ابن سينا التي بلعها، (ولا يعرف فلسفة غيرها)، لم يستطع ذلك لأنه لم يمضغ الفلسفة في أصولها، ولا درسها في حقولها، ولا هضمها ولا تمثلها، وإنما ابتلع ما خيل له أنه فلسفة فأنتج ما ابتلعه منها ومن غيرها نتاجا غريبا هجينا جعل منه شخصا متعدد الأوجه: يقول في مكان، ما ينقضه في آخر. وذلك ما نبه إليه الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل الذي قال: «وأما كتب أبي حامد الغزالي فهي بحسب مخاطبته للجمهور، تربط في موضع، وتحل في آخر، وتكفر بأشياء تم تحللها... إلخ». كما سنرى في المقال القادم.
إنشرها