«دروس من تجربتي المثيرة مع أحد عتاة جماعة التكفير والهجرة!»

الشيء بالشيء يذكر. استمعت بإنصات للمكالمة الهاتفية التي تمت بين صاحب السمو الملكي مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية وبين الانتحاري. كنت ألتمس شيئا يمكن أن يُحسب أو يؤخذ على مساعد وزير الداخلية، ولكنني فوجئت واستمتعت بحواره الراقي والأبوي، بل استشعرت مدى صلف الانتحاري في أسلوبه وفي ردوده على الأمير محمد بن نايف، لدرجة أن المستمع الذي لا يعلم بالموضوع، يعتقد أن الانتحاري يجلس في موقع الأمير المحترم وليس العكس. لم يكتف الأمير بهذا، بل بادر بالاتصال بوالدة المنتحر ليعزيها فيه، فأي رجل هذا؟ أكثر الله من أمثالك، فما أحوج أمتنا العربية إلى مثل تلك القيادات الراجحة. فها هي التجربة تثبت أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وهي رسالة إلى كل شاب، أراد المولى إرسالها في هذا الشهر الفضيل، محتواها ''أن هؤلاء أعداء لأنفسهم ولمجتمعاتهم، وأنهم أجهل من أن يحملوا رسالة إصلاح، ولهذا كان لا بد أن يموت الانتحاري ويحيا الأمير...فليس هناك من رسالة أبلغ من ذلك. ولهذا، رب ضارة نافعة...فستكون هذه الحادثة فاتحة خير إن شاء الله''.وفي الحقيقة ذكرتني هذه الحادثة بتجربتي - الشخصية والمثيرة - مع من كان يصنف ضمن أكبر رؤوس ''لجماعة التكفير والهجرة'' في مصر والعالم. بدأت القصة منذ عشرين عاماً تقريباً، إذ كنت في السنة النهائية في كلية الحقوق، حيث دعاني صديق لي في القرية لزيارة هذا ''الشيخ''. فقد أَفرجت عنه الدولة بعد أن ''أعلن'' توبته ورغبته في الحياة بسلام بين الناس. ولكنه لم يحيا بين الناس، فقد بنى له بيتاً من الطين على أطرف القرية، وعاش منعزلاً تماماً عن الدنيا وعن الناس مع زوجتيه. لم يتب ''الشيخ'' عن نهجه التكفيري، ولكنه وظف عدداً من الشباب لاستقطاب من يرونه مؤهلاً للسير على دربهم، لزيارته والاستماع إليه.
دعاني صديقي لزيارة ''الشيخ'' للاستماع إليه، وخاصة أنه يعرف أنني من محبي الاستكشاف والتعرف على كل ما هو جديد، قائلاً لي ''لن تخسر شيئا، فإن أعجبك الكلام فبها ونعمة، وإلا فيا دار ما دخلك شر''. طلبت منه الانتظار لحين الانتهاء من الدراسة وإعلان النتيجة. وبالفعل انتهت الدراسة وأعلنت النتيجة بأنني أول الدفعة شأن الوضع في السنوات السابقة ـ وحديثي عن كوني أول الدفعة أمر وثيق الصلة بصلب هذه القِصة ـ ذهبنا لزيارته، فأحسن استقبالي، وجلسنا على الحصير. فالبيت ليس فيه ''أنتريه أو مجلس''، ربما يعدونه حراماً!
بدأ ''الشيخ'' بالحديث وأنصت إليه، فسألني ماذا سأفعل بعد التخرج، قلت له أنا أول دفعتي، والدنيا بدأت تبتسم لي، فها قد آتتني الفرصة لأنتشل نفسي وأسرتي من الفقر، فأمامي العمل في القضاء أو في الجامعة، رد ''الشيخ'' مباشرة، ولينفرني من العمل في الحكومة، بحديثه عن أمرين رئيسين:
الأول: قال وهو حزين، هل تعلم أنه منذ أسبوع وقعت حادثة لطالب في كلية الطب وأصدقائه، وكان أول دفعته، وقرر الذهاب في رحلة لرأس البر للاحتفال بالنجاح، فانقلبت بهم السيارة فماتوا جميعاً، أي أن الدنيا فانية يا ابني. هذه رسالة مباشرة لي حتى لا أفكر في كوني أول دفعتي. هل تدركون مدى سذاجة وضحالة وخبث فكر هؤلاء؟!
الثاني: هو حديثه عن الحكومة الكافرة، كيف أستطيع أن أعبد الله حق عبادته وأن أعمل تحت إمرة حكومة كافرة، وبدأ ''فضيلته'' بالحديث عن مثالب الحكومة والفجور والسفور والفنانين والفساد وأمور كثيرة، لإقناعي بألا أعمل مع هذا النظام الكافر. تكررت على لسانه كلمات ''الطاغوت والطاغية'' وأن واجبنا - وخاصة النجباء - ليس دعم الطاغوت، ولكن مواجهته باستثمار قدراتنا التي وهبنا الله إياها.
في الحقيقة بعد استماعي إلى خطبته العصماء، اسودت الدنيا في عيني، وخرجت من صومعته المظلمة فاقد البوصلة، لا أدري إلى أين أتجه، بل لقد وأد بداخلي فرحتي بالتفوق، وأملي وأمل أمي، التي ضحت بكل ما تملك بعد وفاة الوالد وتركنا أطفالاً نعيش بستر الله. تعبت وتحملت وقاست لكي تراني أحقق حلمها وحلم أبي بأن أكون ''وكيل نيابة''.
ظللت على مدى أسبوعين أفكر وأفكر، ولكن وللأمانة، كانت بداخلي قناعة أن الانعزال عن المجتمع وتكفيره ليس من الصواب في شيء. لاحظت أمي تغير حالي وبفراسة الأمهات حذرتني من لقاء صديقي، فهي تعرف أنه يتردد على هذا ''الشيخ''، وبكت أمامي أكثر من مرة، بعد أن أوشكت على قتل فرحتها. المهم، بعد تفكير عميق، هداني المولى ـ عز وجل ـ لجادة الصواب. فكل يوم يمر، يطلب مني صديقي القدوم لزيارة ''الشيخ''. وما أن حزمت أمري قلت له على بركة الله لنذهب إليه. فسألني ''الشيخ'' ما هو قرارك يا أخ رضا؟ قلت له هداني الله إلى أن أواصل رحلتي مع مجتمعي، وأصلح فيه ما استطعت، تنفيذاً لقول المصطفى ''مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه...إلى آخر الحديث''، وأيضاً تنفيذاً لقول الحق ''ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة''.
فيمكنني فضيلة ''الشيخ'' أن أؤدي رسالتي بشكل أفضل وأنا جزء من هذا المجتمع الذي تسمه بالكفر، ولهذا لا أعتقد بصدق توجهك. فقال لي بعد أن تغير وجهه، واضح أنك يا أخ رضا أغرَتك الدنيا، وخشيت أن تخسر تفوقك والدنيا التي تلمع أمام عينيك. قلت له الأمر ليس كذلك، ولكني أؤمن أنني يمكن أن أفعل شيئا أفضل كأستاذ في الجامعة، بأن أربي أجيالا وأجيالا على قيم عظيمة - فما أعظمها من رسالة - أو أن أحكم بالعدل، وأوصل الحقوق لأصحابها قدر استطاعتي.
الآن وبعد مضي ما يزيد على 15 عاماً منذ تعييني في القضاء ثم الجامعة، أدركت عظم الرسالة، ووقوف المولى ـ عز وجل ـ بجانبي، فما زال هو يعيش معزولاً عن العالم ومكفراً له، وها أنا أؤدي رسالتي وسط مجتمعي، وأنصح وأوجه طلابي قدر استطاعتي، وفي الوقت نفسه تمكنت من انتشال أسرتي من الفقر، وأشعرت أمي بأن عناءها لم يذهب سدى، وها هي تحيا سعيدة بي وبرسالتي. فالحمد لله أن وهبني الصواب. وإذا كان المولى قد نجاني من براثن هؤلاء التكفيريين، فإن هناك العشرات والمئات ممن انساقوا خلف دعاة التكفير والانعزال والدمار.
لا أنكر أن مجتمعاتنا ومؤسساتنا فيها كثير من النواقص، وهناك كثير من الأخطاء التي ندركها، ولكننا نعيش على الأرض، ولولا وجود الخطأ لكنا في السماء، ولما كنا بشراً نصيب ونخطئ، مصداقاً للحديث القدسي الشريف. إلا أن الحل ليس في تكفير المجتمع أو الانعزال عنه، وإنما في الاندماج فيه، ومحاولة الإصلاح قدر الاستطاعة، وأن نضع نصب أعيننا منهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وليس منهج ''أبو جهل التكفيري''.
ولكن هناك أمرا آخر أود الإشارة إليه، وهو أنني من خلال اقترابي من هؤلاء وحديثي إليهم، أدركت مدى ضحالة تفكيرهم وثقافتهم الدينية والعامة. ولهذا ليس غريباً أن يسلكوا سبيل التطرف. فالإنسان المثقف هو الإنسان الوسطي، الذي لا يمكنه أن يتطرف في أي فعل أو قول، ولهذا فإن ''التطرف قرين الجهل''. فهناك ظاهرة خطيرة على مجتمعاتنا تشكل سبباً رئيساً للتطرف، وهي ''أنصاف المتعلمين''، فليس كل متعلم مثقف. فهؤلاء يستشعرون بمجرد دخولهم المدارس وحصولهم على شهادات، بأنهم يحملون الحقيقة المطلقة، في حين أن الجاهل الذي لم يتعلم أو لم يدخل المدرسة، أقل خطراً، لأنه يدرك تماماً حجمه وإمكاناته.
لقد كان هدفي من عرض تجربتي، هو تقديم رسالة لشبابنا الذي يلتمس الحقيقة وربما تستفزه بعض النواقص في مجتمعاتنا، وهي ''أن عليكم النظر إلى النصف الممتلئ من الكوب وليس كما ينظر التكفيريون، تذكر الحسنات كما تتذكر السلبيات، اجتهد بالحكمة والموعظة الحسنة للقضاء على تلك السلبيات, وضع نصب عينيك دائماً أشرف الخلق، ولكن إياك والتطرف، فالتطرف يولد التطرف، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه... قانون غير قابل للنقض''.
وفي الوقت نفسه، ينبغي على مؤسساتنا الدينية أن تطور من رسالتها، لتكون قادرة على مجابهة التحديات الجديدة، وتتمكن من استيعاب شبابنا، فإذا لم نستوعبهم بخطابنا المتجدد ووجوهنا الطلقة الباسمة فسيستوعبهم دعاة الدمار. ولسد ذرائع أنصاف المتعلمين، ودعاة جهنم، على مختَلَف مؤسساتنا تطوير نفسها، والقضاء على مواطن القصور. فقدراتنا العقلية تتباين، فهناك الناضج والمثقف الذي لا يمكن أن تنطلي عليهم رسالة التكفيريين، ولكن هناك أيضاً مَن هم أقل نضجاً وثقافة، ممن يسهل على المتطرفين اجتذابهم وإقناعهم بأنهم على صواب في محاربة المجتمع. ومن ثم علينا التحرك في اتجاهين لمحاربة الفكر الضال: الأول مواصلة برامج المناصحة وتطوير الخطاب الديني، والثاني معالجة جوانب القصور في مؤسساتنا، التي توفر ذرائع ''لأنصاف المتعلمين'' لمهاجمة الأبرياء واستحلال الحرمات. وفقنا الله إلى الصواب في القول والعمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي