العمالة السائبة نحن صنعناها .. والقضاء عليها في أيدينا

كلمة ''الاقتصادية'' بعنوان ''العمالة السائبة .. خطر في شوارعنا وأحيائنا'' في العدد 5799، شخصت بوضوح تام مشكلة انتشار العمالة السائبة في مدن ومحافظات المملكة وقراها، وما تتسبب فيه من تهديد لأمن المجتمع وسلامته واستقراره، وتفادياً لاستفحال هذه المشكلة في بلادنا، فقد طالبت الكلمة أن يتم استقدام العمالة للبلاد وفق تنظيمات ذات العلاقة بالشأن العمالي، بحيث لا يتم استقدام عمالة للسعودية سوى وفق احتياجات معينة للقيام بمهن محددة ضمن الاحتياجات المطلوبة سواء في القطاع الخدمي أو الصناعي أو التجاري.
من بين أهداف مطالبة كلمة ''الاقتصادية'' بتنظيم استقدام العمالة الأجنبية للسعودية، إلى جانب تجنيب البلاد مشكلة انتشار ظاهرة العمالة السائبة والقضاء عليها، ألا تشكل العمالة الوافدة مزاحمة للفرص الوظيفية المتاحة للمواطنين، وألا تعوق الخطط المحلية لتوطين المهن والأعمال الممكنة.
كلمة ''الاقتصادية'' وكما يقول المثل الشعبي وضعت الأصبع على الجرح في تشخيصها, وكما أسلفت لمعاناة السعودية والسعوديين من مشكلة العمالة السائبة، التي هي من صنع أيدينا, وأسهمنا نحن كحكومة وكمواطنين, مع الأسف الشديد, في تفشيها وفي انتشارها منذ أن بدأت طفرة السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، وفتحنا باب الاستقدام للعمالة الأجنبية على مصراعيه بهدف مشاركة تلك العمالة في مرحلة البناء والتشييد غير المسبوقة، التي كانت تشهدها البلاد في جميع مناحي الحياة.
بطبيعة الحال قد يجادل بعضهم بأن استقدام العمالة الأجنبية خلال طفرة السبعينيات الاقتصادية كان له ما يبرره ويفرضه، وبالذات في ظل شح ـ آنذاك ـ توافر العمالة الوطنية المدربة والمؤهلة التأهيل المطلوب للقيام بتنفيذ أعمال الإنشاءات والبناء والتشييد للمشاريع التنموية العملاقة، التي نفذتها المملكة في ذلك الوقت في مختلف مجالات الحياة، ما جنب البلاد والاقتصاد السعودي الوقوع في اختناقات وفي اختلالات قد ينجم عنها تعثر المسيرة التنموية، التي انتهجتها الحكومة السعودية للنهوض بمستوى المملكة الحضاري والاجتماعي والتنموي، لكن المشكلة تكمن في أننا لم نفلح في الاستفادة من خبرات تلك العمالة، وبالذات في نقل خبراتها وإكسابها للسعوديين في جميع مجالات وأنشطة الحياة، كما نجحنا على سبيل المثال في القطاع المصرفي، وإلى حد ما في القطاع الصحي، الأمر الذي تسبب في وقت ما في أن أصبح لدينا نحو 1.45 وافد لكل عامل سعودي، هذا إضافة إلى أننا أصبحنا نعتمد على العمالة الوافدة في بعض القطاعات والأنشطة الاقتصادية، مثال قطاع المقاولات والبناء والتشييد، وقطاع التوزيع والتجزئة، والقطاع الزراعي، بشكل كبير ومتزايد ربما لا تبرره الحاجة الاقتصادية.
من بين العوامل كذلك التي أسهمت بشكل كبير في تفاقم مشكلة العمالة الوافدة في بلادنا، وبالذات السائبة منها، قيام العمالة الوافدة بتنفيذ خدمات يعزف عن القيام بها المواطنون السعوديون، وبالذات ذلك النوع من الأعمال المرتبطة بمستوى خبرة معين مقابل أجر قليل نسبياً، ما جعل القطاع الخاص يتمسك بها على حساب العمالة الوطنية.
من بين أسباب انتشار العمالة السائبة كذلك، تزايد أعداد المواطنين من ذوي ضعاف النفوس، الذين يتاجرون بالتأشيرات وباستقدام العمالة الأجنبية دون الحاجة الاقتصادية الفعلية إليهم، لا سيما أنهم يجنون من وراء ذلك العمل المشين مبالغ طائلة، إما من خلال بيع تلك التأشيرات بمبالغ كبيرة وإما من خلال تسريحهم العمالة بعيداً عنهم مقابل تقاضي مبالغ مالية منهم تدفع لهم وفق اتفاق معين بين صاحب التأشيرة والعامل، على أن يتحمل الأخير مسؤولياته والتزاماته الشخصية من تكاليف معيشة ودفع رسوم تجديد إقامة وتكاليف علاج وتطبيب وخلافه.
جريدة ''الرياض'' في عددها الصادر بتاريخ 2 آب (أغسطس) عام 2008، فتحت ملف العمالة الأجنبية، وبالذات السائبة منها، الذي أوضحت من خلاله التأثيرات الاقتصادية السلبية لذلك النوع من العمالة في الاقتصاد الوطني، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، تجاوز التحويلات المالية للعمالة الأجنبية العاملة في المملكة وفق آخر إحصائية مبلغ 100 مليار ريال سنوياً، هذا إضافة إلى ما تتسبب فيه هذه العمالة، وبالذات العمالة السائبة، من مشكلات ملموسة على أرض الواقع من الناحيتين الاجتماعية والأمنية، الأمر الذي يؤكده، أن خلال فترة إجراء التحقيق الصحافي، وجود نحو 850 مسجوناً من هذه العمالة في سجون الدمام فقط على ذمة قضايا جنائية مختلفة من جنسيات مختلفة.
تخلف الحجاج والمعتمرين نتيجة تهاون بعض شركات العمرة والحج في متابعة عودة زبائنهم من المعتمرين والحجاج إلى أوطانهم، من بين المشكلات الرئيسة التي أدت إلى تفاقم حدة تزايد العمالة السائبة في البلاد، كما أن التحسن الكبير الذي طرأ على دخول عدد من الأفراد والأسر خلال طفرة السبعينيات الاقتصادية، أسهم بشكل كبير في استقدام العمالة الوافدة، وبالذات المنزلية منها، الأمر الذي يؤكده وصول أعداد العمالة الوافدة إلى قمتها خلال الخطة الخمسية الثالثة، التي شهدت فيها المملكة حراكا تنمويا غير مسبوق واكتمال عدد كبير من المشاريع التنموية العملاقة وبداية تشغيلها، حيث بلغ معدل نمو العمالة الوافدة خلال تلك الخطة نحو 11.7 في المائة، بينما ازدادت العمالة السعودية بمعدل 3.7 في المائة وأصبحت العمالة السعودية تشكل نحو 40 في المائة, فيما كانت تشكل في نهاية الخطة الخمسية الثانية نحو 49 في المائة.
أخيرا وليس آخرا، تفشي ظاهرة التستر التجاري في المملكة، قد أسهمت إلى حد كبير في تفاقم مشكلة العمالة غير النظامية، بما في ذلك العمالة السائبة، وبالذات في قطاعات وأنشطة اقتصادية معينة، مثل قطاع تجارة الجملة، والتجزئة في قطاع الملابس والأقمشة، التي بلغت نسبة العاملين فيها من العمالة الوافدة وفقما أشارت إليه إحصائية في وقت سابق نحو 97.5 في المائة من إجمالي عدد العمالة في السوق.
نخلص للقول إن مشكلة العمالة السائبة هي مشكلة من صنع أيدينا، ونحن من حاك خيوطها، نتيجة إخفاقنا في اتباع منهجية وسياسات سعودة (توطين) للوظائف علمية وعملية مدروسة (لا ضرر ولا ضرار)، تحافظ على أن يعمل الاقتصاد بشكل متوازن، وتعمل في الوقت نفسه بكفاءة على الإحلال التدريجي للوظائف، التي يشغلها الأجانب بمواطنين سعوديين، كما أن ممارسات البعض منا لسلوكيات استقدام عمالة أجنبية خاطئة، مثال المتاجرة بالتأشيرات، قد أوقعتنا في مشكلة العمالة السائبة.
للخروج من أزمة العاملة السائبة والتغلب على هذه المشكلة، فإن الأمر يتطلب التركيز بشكل أكبر مقارنة بأي وقت مضى على السعودة (توطين) الوظائف بالشكل الذي ـ كما أسلفت، لا يخل بآلية عمل الاقتصاد والتنمية، هذا إضافة إلى تفعيل تطبيق قرار تنظيم تأجير العمالة بأسرع وقت، بهدف قطع دابر المتاجرة بالتأشيرات، وسد الطريق أمام تجار السوق السوداء في سوق العمالة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي