شهر رمضان وشيطان التدخين

شهر رمضان محطة سنوية وروحية ونفسية وصحية مهمة في حياة الإنسان ولكن قليل منا من يخرج من هذا الشهر بتقدير جيد أو جيد جدا, فروح الإنسان تحيط بها الشياطين من كل جانب كما تحيط بالبدن الميكروبات والفيروسات الضارة, ويتيح شهر رمضان الفرصة للإنسان أن يقوي روحه وأن يعزز مناعته النفسية لصد أي اختراق شيطاني محتمل. اختراق الشياطين روح الإنسان والدخول إلى نفسه والعبث بها هو نتيجة لضعف هذه الروح وتضعضع مناعتها الذاتية وليس لقوة هذه الشياطين. فرحمة الله وبركاته النازلة بكثافة في هذا الشهر الكريم كفيلة لمن تعرض لها أن تغسل روحه وأن تنظف نفسه مما قد لحق بها من غبار أو أوساخ قد تعفنت وأحدثت من الثقوب والشقوق ما قد يشكل منافذ ومعابر لهذه الشياطين للدخول إلى داخل الإنسان حيث الروح والنفس.
وإذا كانت الشياطين تتوالد وتخرج بنسخ جديدة وبأشكال مغايرة لكي تبقي ميزان القوة متكافئا في صراعها مع الإنسان فإننا نستطيع أن ندعي ومن غير مبالغة أن التدخين وأنواعه كافة هو اليوم من أعظم شياطين الساعة, هل هناك شيطان مثل التدخين له مثل هذا العدد الكبير من الضحايا من الرجال والنساء والأطفال؟ جمعية السرطان العالمية ذكرت في آخر تقرير لها أن هناك اليوم أكثر من مليار رجل يدخن وإلى جانبهم أكثر من ربع مليار امرأة مدخنة. والمشكلة أن الدول الفقيرة والنامية باتت تصدر العقول والكفاءات الطبية والهندسية لتستورد في مقابلها شياطين التدخين, فأكثر من نصف المدخنين الرجال هم في الدول الفقيرة, وأما عدد المدخنين في الدول المتقدمة فهو في تراجع مستمر لكثرة ما أصدرته هذه الدول من أنظمة وتشريعات تحد من انتشار ظاهرة التدخين.
ويحذر هذا التقرير الأخير لمنظمة السرطان العالمية من تزايد عدد الوفيات سنويا بسبب التدخين, ففي السنة الحالية سيصل عدد من سيموتون من التدخين إلى خمسة ملايين ونصف مليون إنسان وسيصل هذا العدد إلى ستة ملايين في السنة المقبلة. فمن كل عشرة يموتون عالميا تجد واحدا منهم قد مات بسبب التدخين. وفي تقدير هذه المنظمة أن التدخين تسبب في وفاة أكثر من 100 مليون إنسان في القرن العشرين وسيموت أكثر من مليار إنسان بسبب التدخين في القرن الواحد والعشرين, ولنا أن نتصور شراسة هذا الشيطان الأكبر وهو يفتك بأكثر من مليار إنسان. ولا يموت هؤلاء المدخنون إلا بعد أن ينفق المجتمع أكثر من 500 مليار دولار على علاجهم ورعايتهم وإصلاح ما يتسبب فيه الدخان من أضرار مادية وبيئية. بل إن التدخين يتسبب في فقدان ما يقارب من 4 في المائة من الناتج القومي العالمي.
ولو اقتربنا من الصين, هذه الدول العملاقة بعدد سكانها واقتصادها والتي ينتظر أن تقود العالم اقتصاديا وربما حتى علميا في المستقبل, لوجدنا أن كل هذه الأحلام معرضة للضياع إن لم ينتصر الشعب الصيني على شيطان التدخين, فما يقارب من 40 في المائة من سجاير العالم تدخن في الصين, وأن 60 في المائة من الرجال في الصين هم من المدخنين. وتشير الدراسات إلى أن 50 مليون طفل صيني سيموتون مبكرا بسبب تدخين آبائهم وأمهاتهم. الصين لا يمكن أن تستمر في نهوضها الاقتصادي ورئة شعبها من الرجال والنساء مملوءة بالدخان, فالمدخن, ولقد ثبت علميا أنه إنسان أقل نشاطا وإنتاجا في الميدانين العلمي والعملي, فهو إنسان أقل تركيزا وأقل انغماسا في عمله وأكثر عرضة للأمراض. ولا يمكن للصين أن تنجح في صراعها وتحديها شيطان التدخين وهي أكبر دولة مصنعة عالميا للسجائر, فما تجنيه الصين اقتصاديا من صناعة السجائر سيذهب بالتأكيد كله وزيادة عليه لمعالجة ما سيتسبب فيه التدخين من أضرار بشرية وبيئية.
إن التجارة مع شياطين التدخين تجارة خاسرة وإن بدت للمدخن غير ذلك, فمدخن السيجارة أو الشيشة قد يرفض مناقشته وقد يدعي أن أضرار التدخين لا تصل إلى ما يحس به من متعة ولذة وارتياح نفسي, ولكن هل يعلم المدخن أن نسبة المخاطرة بالموت مبكرا بسبب التدخين هي 23 مرة ضعف نسبة غير المدخن, وتنخفض هذه النسبة من المخاطرة عند النساء إلى 13 مرة مقارنة بالنساء غير المدخنات. بل إن الدراسات العلمية خلصت إلى أن المدخن يموت بمعدل 15 سنة مبكرا عن عمر الإنسان غير المدخن. هل هناك لذة أو متعة يمكن أن يشتريها الإنسان بـ 15 سنة من عمره؟ وأية لذة هذه التي يحسها المدخن في مقابل ما يقارب الربع من عمره؟ وبالتالي فإن هذه الحقائق تؤكد أن شياطين التدخين هي الرابحة في تجارتها مع الإنسان.
ولا يقتصر ضرر التدخين على المدخن نفسه, فدخان السيجارة, الذي يحتوي على أربعة آلاف مادة كيماوية سامة و400 من هذه المواد الكيماوية هي مواد ثبت علميا أنها مواد مسرطنة, يتسبب في قتل أكثر من 200 ألف إنسان غير مدخن سنويا, نعم, ضحايا التدخين من غير المدخنين أكثر من ضحايا القنابل الذرية التي أسقطت على اليابان. ودخان السجائر فيه جزء مرئي وجزء آخر غير مرئي, والمصيبة أن الجزء غير المرئي أخطر بكثير من الجزء المرئي لأنه يحتوي على أشد المواد خطورة وفتكا بالإنسان, وهذا الجزء غير المرئي هو الذي ينتشر بعيدا عن المدخن ليستنشقه غير المدخن ويأخذ نصيبه من هذه السموم القاتلة وهو لا يدري ومن غير أن يدخن. منع التدخين في الأماكن العامة ليس مصادرة لحق المدخن بقدر ما هو حفظ لحقوق غير المدخنين الذين من حقهم ألا يتلوث ما يستنشقونه من هواء بهذه السموم المتطايرة. أحد خبراء الصحة يشبه المدخن بأنه مصنع متنقل ومن حق الناس أن يطالبوا بإبعاد هؤلاء المدخنين, أو بالأحرى المصانع المتنقلة, بعيدا عن مدنهم وخارج الأماكن العامة.
إذا كان الإنسان المسلم قادرا على أن يلجم شيطان التدخين طوال نهار الصيام طاعة لله واحتسابا لمرضاته فلماذا لا يستثمر هذه الفرصة الرمضانية ويبعد عنه هذا الشيطان إلى الأبد؟ صحيح أن التدخين من العادات القوية والمستحكمة, بل هو في عرف خبراء الصحة, عادة تصل إلى أشد حالات الإدمان, ولكن هذه العادة وهذا الإدمان بالإمكان هزيمته والتخلص منه, وكما قال أحد خبراء معالجة التدخين إن أفضل طريقة للإقلاع عن التدخين هي المحاولة والإصرار على تكرارها لأن المدخن في كل محاولة يكتسب مقدارا من القوة النفسية الجديدة للتغلب على هذه العادة, ولا يجد المدخن أفضل من شهر رمضان للبدء في محاولته, وبالتأكيد فإن بركة هذه الشهر ستضاعف من نسبة ما يكتسبه من قوة في كل محاولة يقوم بها بشرط أن يصدق النية مع نفسه, وعندها وببركة هذا الشهر سيجد عنده من قوة الإرادة ما يخلصه من شيطان التدخين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي