الاستقدام: أما آن الأوان للانتقال من مرحلة "الكم" إلى "الكيف"
يدخل الاقتصاد والمجتمع السعودي مرحلة جديدة من مراحل التنمية، ووضِع العديد من الاستراتيجيات التنموية لمختلف القطاعات، تستهدف جميعها الانتقال إلى مجتمع واقتصاد المعرفة. إلا أن إنجاز هذه الأهداف الطموحة يتطلب تبني سياسات واستراتيجيات مختلفة كل الاختلاف عما تم تبنيه في السابق. وتعد سياسة الاستقدام إحدى الآليات المهمة لتحقيق هذا التحول، خاصة عندما نعرف أن نحو ثلث سكان المملكة هم من الوافدين، ويعملون في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية.
فطوال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية، تركز جل الاهتمام على "الكم" أي كم العمالة الوافدة لإشباع ظمأ قطاعات الإنتاج لعناصر العمل، ولكن الاقتصاد الوطني بمختلف قطاعاته بلغ مرحلة من النضج تستدعي تبني استراتيجية جديدة ومختلفة تماماً في مجال الاستقدام، حيث يتم الانتقال إلى مرحلة "الكيف" أي الانتقاء والاختيار الجاد للعمالة الوافدة، حيث يتم استقطاب الكفاءات القادرة على دعم جهود الانتقال إلى مرحلة جديدة في طور النمو.
كيف يمكن للمملكة التحول نحو الاقتصاد الجديد وأكثر من 85 في المائة من العمالة الوافدة إليها هم إما أميون وإما بالكاد يستطيعون القراءة والكتابة؟ ما القيمة المضافة التي تضيفها هذه النوعية من العمالة للاقتصاد الوطني؟ لا شيء.. وفي المقابل، وما التكلفة التي يتحملها الاقتصاد باعتماده على عمالة منخفضة التعليم والمهارة؟ لا شك أنها كبيرة ومؤثرة. ففي عصر الحرية الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية والمنافسة الحادة، علينا أن نتوقع تدني القدرة التنافسية لمختلف المنتجات الوطنية. وعندما ندرك أن ما يقارب 80 في المائة من العمالة الوافدة العاملة في الصناعة الوطنية هم ممن لم يحصلوا على الشهادة الثانوية، بل إن أغلبيتهم أميون، فهذا يعني أننا في وضع يستحق المراجعة، والمراجعة الجادة، من خلال استراتيجية جديدة تماماً في مجال الاستقدام، يعكف على وضعها وزارة العمل بالتعاون مع مختلف الوزارات المعنية مثل وزارة التجارة والصناعة وغرف التجارة والصناعة ورجال الأعمال وباقي الوزارات ذات الصلة.
لقد دأب المستثمر الوطني على الاعتماد على العامل الرخيص لخفض تكلفة الإنتاج، ولكن عليه أن يدرك أن العامل الرخيص لن يعطيه الكثير، بل سيفقده القدرة على المنافسة في السوقين المحلي والدولي. ومن ثم فإن عليه أن يقوم بدوره ويتحمل مسؤوليته بتبني أحدث تقنيات الإنتاج التي تتطلب بدورها عمالة عالية التأهيل. عليه أن يقتنع تماماً أن العامل عالي المهارة، وإن كلفه كثيرا (الأجر)، فسيعطيه أيضاً كثيرا وكثيرا.
ولا تخفي علينا جميعاً المخاطر والسلبيات التي تترتب على تفشي وإغراق السوق بالعمالة منخفضة التعليم والمهارات، فالسلبيات متعددة ويصعب حصرها، فمنها ما هو اقتصادي، حيث تراجع معدلات الإنتاج وجودته وقدرته التنافسية، وبدلا من أن يضيف العامل الوافد للاقتصاد يصبح عبئا عليه. أما على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي والقيمي...فحدث ولا حرج. بل إن الذوق العام ونظافة الشوارع تتأثر جميعها بنوعية عنصر العمل.
فالمملكة بحسب الإحصاءات العالمية إحدى كبريات الدول التي تستقطب العمالة الوافدة، ولكن العبرة ليست بالكم، وإنما بالكيف والجودة. فالولايات المتحدة تتربع على قائمة الدول التي تستقطب الوافدين، ولكن شتان بين السياستين. فالولايات المتحدة تتبنى سياسة شديدة الانتقائية، وكلنا يعرف هذا، ولهذا ليس غريباً أن يكون الاقتصاد الأمريكي مبنياً وقائماً على سواعد الوافدين من مختلف الجنسيات. الغريب أيضاً أنك لو قارنت بين العمالة الوافدة لكل من الولايات المتحدة والمملكة من الجنسية الهندية – على سبيل المثال - ستدرك كيف أن الهوة سحيقة بين التجربتين. ففي الوقت الذي تستقطب فيه الولايات المتحدة أكثر من ربع مليون هندي من خيرة وألمع العقول الهندية، تجد وضعاً مختلفاً تماماً في المملكة، لماذا؟
إن اقتصاد المملكة مقبل على مرحلة جديدة، ولا يمكن تجاهل وزن وحجم وتأثير تلك الشريحة التي تشكل ثلث المجتمع، فقد تكون نعمة أو نقمة عليه، والخيار في النهاية في أيدي الجميع. فمن المؤكد أن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الوزارات كوزارة العمل، ولكنها تقع في الأساس على عاتق رجل الأعمال والمستثمر والمستفيد من خدمات العامل الوافد. فعلى كل هؤلاء التيقن تماماً أن الاستمرار في التركيز على تكلفة العامل لن يفيده ولن يفيد الاقتصاد ككل، ولهذا أعجب كثيراً عندما أرى جل سهام النقد توجه لوزارة العمل، في حين أن المستفيد من العملية برمتها هو المواطن الذي يشغل هذا العامل غير المكلف بدلاً من تشغيل السعودي الذي لن يقبل بالأجر نفسه أو شروط العمل.
فقط أود الإشارة إلى مثالين لتوضيح الفارق بين "الكم" و"الكيف" في مجال الاستقدام. من المعروف أن المملكة تعاني ظاهرة التحويلات الضخمة للخارج وكيف أنها تعدت 60 مليار ريال. نعلم أيضاً أن الولايات المتحدة تتقدم باقي دول العالم في مجال التحويلات للخارج، ولكن المفارقة هي أنه لوحظ، بحسب الدراسات الأمريكية، أن حملة الشهادة الجامعية فأكثر من الوافدين أكثر ميلاً لاستثمار الدخول في السوق الأمريكي، وهم أكثر اعتماداً للوسائل الرسمية في مجال التحويل، وهم الأقل ارتكاب للجريمة بين الوافدين، وهم الأكثر إنفاقاً (الطلب)، وهم أكثر تقيداً بالذوق والنظام العام، وذلك مقارنة بالعمالة التي لم تصل في تعليمها إلى المرحلة الجامعية.
وعلى النقيض من ذلك، أكتفي بعرض المثال التالي الذي يوضح الحالة العكسية، وهي الاعتماد على العمالة منخفضة التعليم والمهارة. فالدراسات العالمية في مجال الجريمة - على سبيل المثال - توضح أن العامل منخفض التعليم والمهارة، ومن ثم المنخفض الدخل، هو الأكثر ميلاً لارتكاب الجريمة. فتكلفة ارتكاب الجريمة بالنسبة له منخفضة، مقارنة بالعائد على ارتكابه لها. فماذا سيخسر لو ارتكب الجريمة؟ سمعة؟ دخل؟!
وفي المقابل، أكدت تلك الدراسات أن الموظف أو العامل عالي التعليم والمهارة ومن ثم الدخل، تكون تكلفة ارتكاب الجريمة بالنسبة له مرتفعة، ومن ثم سيكون أقل ميلاً لارتكاب الجريمة، وبالتالي تنخفض معدلات الجريمة. والذي بدأ هذا النوع من التحليل هو "جاري بيكر"، وهو اقتصادي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1992م عن دراساته حول التحليل الاقتصادي للاختيارThe Economic Analysis of Choice . ومن يراجع إحصاءات وزارة الداخلية بشأن مؤشرات الجريمة سيجد تأكيداً لما خلصت إليه تلك الدراسات، إذ إن أكثر من 50 في المائة من جرائم المال والسلب والنهب يرتكبها الوافدون رغم أنهم يشكلون أقل من ثلث السكان!
إذاً، على الجميع أن يدرك أنها مسؤولية جماعية، فالكل مسؤول عن الارتقاء بجودة ونوعية عنصر العمل. لا يمكن إنكار مسؤولية وزارة العمل عن توجيه ونصح الجميع وتبني سياسات تحفز على اعتماد أنماط إنتاجية متقدمة، حيث تعتمد على عناصر عمل ماهرة. على الوزارة أيضاً التعرف على التجارب المقارنة الناجحة في مجال الاستقدام وانعكاساتها على الاقتصاد والمجتمع ومحاولة محاكاة تلك التجارب، فهذه مسألة لن تتطلب سنوات كي تتم محاكاتها. لا بد أن تنطلق الجهود من خلال استراتيجية واضحة المعالم، يعكف على وضعها جميع الجهات المعنية من الحكومة والقطاع الخاص، حيث توضح أهداف وطموحات الاقتصاد والمجتمع وآليات إنجاز تلك الأهداف، والدور الذي يمكن أن يلعبه العامل الوافد في إنجاز هذه الأهداف. والله الموفق.