شهر رمضان وعاء واسع لرحمة الله

هناك كثير من الأشياء والمفاهيم التي حيرت عقول الفلاسفة والعلماء, فعلى الرغم من أن الموت حقيقة لا ينكرها عقل بشر, وأن الموت أمر حتمي لا بد أن يلقاه الإنسان في لحظة ما إلا أن الموت كمفهوم ما زال وسيبقى عصيا على الفهم البشري. وهناك أيضا الحياة والنفس والعقل والسعادة والشقاء وأمور غيرها هي الأخرى محل تنظير يزدحم بالأسئلة التي لا جواب لها. وهناك الزمن الذي نعيش لحظاته ونستودع في بعض غرفه ما وقع من حوادث ونعد غرفا جديدة لما سيأتي منها, ولكن الفلاسفة والعلماء بعد لم يتفقوا على مفهوم واحد للزمن, فهل للزمن بداية وإذا كانت له بداية فماذا نسمي حقبة ما قبل بداية الزمن؟ وهل الزمن ثابت ونحن من يتحرك أم نحن والزمن في حركة؟ وأدخلنا العلم الحديث في شكل الزمن, فصار الزمن عند بعضهم له أشكال متعددة, فهو قد يتقوس مما قد يتيح للإنسان الفرصة لرؤية الماضي حتى التلصص على ما سيأتي به الزمن في المستقبل. وسيبقى الإنسان في حيرة لفهم نفسه وما حوله وما عنده من الغاز. وقد يكفي الإنسان في هذا الجانب أن يجتهد ويبحث ويتأمل لأن كثيرا من هذه الأسئلة ربما يأتي جوابها في العوالم الأخرى التي سيذهب إليها الإنسان بعد انتقاله من هذه الدنيا.
وما أريد أن أقف عنده في حديثي هذا هو مسألة الوجود وعلاقتها بفضل ومكانة شهر رمضان الكريم, فالمسلمون يقدسون هذا الشهر ويحتفون بقدومه ويجتهدون في استثمار أيامه ولياليه بالطاعة والعبادة وفعل الخيرات وما دفعهم إلى ذلك إلا علمهم واعتقادهم أن الطاعة والعبادة في هذا الشهر هي أفضل بكثير من بقية الشهور. فكل شيء في هذا الكون هو مخلوق وموجود بفضل الله, فالإنسان موجود والحيوان موجود والجماد والنباتات هي موجودات والزمان والمكان هي الأخرى موجودات, ولو أردنا أن نقرب إلى أذهاننا معنى هذا الوجود بشكل مبسط فنستطيع أن نقول إن كل هذه الموجودات هي عبارة عن أوعية تستقبل فيض الله ورحمته وبركاته, فهذا الفيض هو نازل ومستمر وغير منقطع وكل وعاء يستقبل من هذا الفيض على قدر حجمه وسعته, فهناك أوعية صغيرة وهناك أوعية كبيرة وهناك من الأوعية ما هو محدود وهناك ما هو متسع وأكبر من الأحجام التي قد تتخيلها أذهاننا, وبقدر سعة هذا الوعاء الوجودي تتحدد قيمة ذلك الموجود, فالأفضل هو ما يستقبل الأكثر والأكبر من الفيض الإلهي والرحمة الإلهية. فالإنسان هو أفضل الموجودات لأنه أوسعها قدرة على استقبال الفيض الإلهي, ويتميز الإنسان بأن له قدرة كبيرة في تكبير وتوسيع وعائه الوجودي, يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه, والنبي محمد ـ صلى الله عليه والله وسلم ـ هو أفضل البشر لأن النفس المحمدية هي أوسع نفس بشرية تستقبل الفيض الإلهي والرحمة الإلهية ولولا هذا الوسع الكبير, "إنك لعلى خلق عظيم", لما استطاع قلب محمد أن يتسع ويستقبل نور القرآن ليشع من بعد هذا النور الإلهي من قلب محمد إلى الحياة وإلى قلوب الناس ونفوسهم. وما العبادة والطاعات والأعمال الخيرة والأخلاق إلا رحمة من الله لتوسيع أوعيتنا الوجودية نحن البشر لاستقبال مزيد من الفيض الإلهي وبذلك نرتقي سلم العلو والفضل والتقوى.
وليست الأماكن مثل بعضها في الفضل لأن أوعيتها الوجودية هي الأخرى تتسع وتضيق, فالمسجد أفضل من غيره من الأماكن وبيت الله الحرام والمسجد النبوي هما أفضل الأماكن على الأرض, وهذه الأماكن وبما اختصت به من وسع وعائها لاستقبال الرحمة الإلهية هي التي جعلت من الصلاة والعبادة في هذه الأماكن أفضل بكثير من الصلاة في غيرها, فما هو موجود من فيض ورحمة إلهية في هذه الأماكن هو الذي يزيد من ثقل هذه العبادات والأعمال في الميزان, بل إن وجود الإنسان في هذه الأماكن التي تطهر باستمرار وبكثافة بفعل ما يستقبله هذا المكان من كثرة من النور والمطر الإلهي تتاح له الفرصة هو الآخر لأن يشمله هذا النور فتتطهر روحه وتنقى نفسه وجوارحه, ولعل هذا المعنى هو المقصود فيما تشير إليه بعض المرويات من أن جلوس الإنسان في المسجد عبادة.
وكما أن للأمكنة اختلافا في سعة أوعيتها الوجودية لاستقبال الرحمة والفيض الإلهي فإن الأزمنة هي الأخرى لها سعات وجودية مختلفة, فهناك وقت أفضل من وقت, وهناك شهر أفضل من شهر, وهناك يوم أفضل من يوم, وهناك ليلة أفضل من غيرها, وهناك ساعة أفضل بكثير من غيرها من الساعات. يوم الجمعة هو يوم فضيل ووعاؤه الوجودي واسع ويجعل من العبادة والصلاة فيه أفضل بكثير من العبادة في غيره من الأيام. وآخر ساعة من يوم الجمعة أفضل من غيرها من الساعات التي تمر على الإنسان, ووسع هذه الساعة جعلها كبيرة تتسع لحمل كل ما يدعو به الإنسان من الله لقضاء حاجاته وأموره على غير ما تتسع به الساعات الأخرى. وأيام الحج ويوم عرفة, بالخصوص, هي الأخرى من الأيام الفضيلة وهي تشترك وقدسية أماكن الحج لتتيح للإنسان الحاج فضاء واسعا جدا لتلقي ما يفيض به الله ـ سبحانه وتعالى ـ من فيض ورحمة وكرم إلهي.
وشهر رمضان هو أفضل الشهور, ويكفينا تصور فضل هذا الشهر وسعته الوجودية أنه شهر الله, فكم يتسع وعاء هذا الشهر الذي اختصه الله له وأعده لاستقبال أكبر وأعظم كم وقدر من الفيوض والكرم والرحمة الإلهية؟ فلولا هذا الوسع لما تحمل هذا الشهر الفضيل لما تحمله فريضة الصيام من ثقل عبادي, وكل العبادات في هذا الشهر لها وقع خاص وحتى نوم الصائم عبادة وحتى أنفاسه تسبيح وحتى ريح فم الصائم تغسله الملائكة والأنوار السماوية لتجعل منه رائحة طيبة وزكية. ويكفي هذا الشهر فضلا أنه ليس هناك وعاء زمني وجودي أوسع منه ليحظى بفضل نزول القرآن الكريم فيه, فالقرآن نور عظيم وليس غير شهر الله عنده من السعة والوسع ليستقبل هذا النور الإلهي. وحتى ليالي شهر رمضان ليست كلها بالفضل نفسه, فليلة القدر هي أفضل وأوسع من ألف شهر, وهذا العدد ربما فقط لتقريب المعنى, ويكفي لفضل هذه الليلة أنها اتسعت لتحوي السلام كله, سلام هي حتى مطلع الفجر, ولا غرابة أن يحضر السلام كله في وعاء تلك الليلة العظيمة لأن نور القرآن الذي نزل فيها وهو مستمر قد تكفل بإنارة كل ظلمة فيها, فهي ليلة نورانية قد غمر نور الله كل دقائقها وثوانيها ولحظاتها.
أما كيف نستثمر هذا الشهر الكريم الذي يتيح لنا فرصة عظيمة لتوسيع أوعية نفوسنا لاستقبال المزيد والمزيد من الفيض الإلهي والرحمة الإلهية فهذا ما يجب أن يهتم به الإنسان المسلم. ولعل أكثر ما يضيق النفوس ويحرمها من استقبال الرحمة الإلهية في هذا الشهر هي الكراهية وعدم الرحمة بالآخرين, فكيف لنفس أن تتسع لتستقبل رحمة الله وهي تنفر من الرحمة بالعباد؟ وكيف لنفس أن لا تضيق ولا تستقبل ما تنزل عليها من فيوض ورحمة إلهية وهي ممتلئة بالحقد والكراهية والبغضاء للآخرين؟ فبحب الناس نتحسس جوعهم, وبحبهم نبادر لمساعدتهم, وبحبهم يتعمق التواصل بيننا وبينهم وبحبهم نحرص على ضمان حقوقهم وعدم ظلمهم, وبحبهم نشركهم حتى في دعائنا, وبحبهم تتحصن نفوسنا من التفكير في إيذاء بعضنا, وبكل هذا الحب تتسع نفوسنا وتتسع أوعيتنا لنخرج من شهر رمضان وقد امتلأت من فيض الله ورحمته, فلنعمر قلوبنا بحب الآخرين ولنجتهد بألا نجعل في قلوبنا حقدا وكراهية وأن نطهر نفوسنا من كل معاني الكراهية, وهذا هو خير ما يستعد به الإنسان لاستقبال هذا الشهر العظيم. وللحديث تتمة عن كيف للإنسان أن يوسع من وعائه الوجودي في هذا الشهر الكريم, وفقنا الله وإياكم لنيل رحمة الله وبركاته في هذا الشهر الفضيل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي