لتجنب تكرار الأزمة ولنظام عالمي أكثر عدالة.. علينا إصلاح أمرين حاسمين!
أكد خبراء صندوق النقد الدولي أخيرا أن الاقتصاد العالمي بصدد بدء رحلة الانتعاش والخروج من الأزمة، وهذا الكلام ليس جديداً، ولكنه أيضاً شديد التفاؤل. فقد سبق لي - كباحث متواضع - أن أشرت في أحد مقالاتي منذ شهور في هذه الجريدة المرموقة إلى أن الأزمة كما ضربت سريعاً (بفعل متغيرات العولمة) سيتم الخروج منها سريعاً بفعل المتغيرات نفسها.
وفي رأيي، أن السؤال الأهم ليس "متى الخروج من الأزمة؟" لأن عالمنا سيخرج منها وهذا هو منطق الأمور ومنطق التاريخ الاقتصادي. ولكن السؤال المهم هو: كيف نضمن حماية الاقتصاد العالمي من السقوط في مثل هذه الهاوية مرة أخرى؟ هل نجحنا في وضع أيدينا على أمهات المشكلات التي قادت إلى هذا الانهيار؟ هل أعددنا لاقتصاد عالمي يدار وفقاً لآليات تختلف عن تلك التي قادتنا للانهيار؟
في رأيي كباحث اقتصادي، أن الدول (وخاصة الدول الكبرى) تصرفت خلال الأشهر الماضية تصرف المفلس، الذي يحاول تغطية خسارته من خلال بيع أساس منزله، دون أن يفتش عن الأسباب التي قادته على الإفلاس. فالدول، وللخروج من الأزمة، كل ما فعلته هو حزم الإنقاذ المالي الضخمة، التي أفادت في المقام الأول من هم أولى بمقصلة العدالة (رجال المؤسسات المالية)، ولكن هل تم الاقتراب من أمهات المشكلات والجذور الحقيقية للأزمة؟ الإجابة بالقطع ...لا.
من حقنا كمفكرين عرب أن نسهم بفكرنا.. وأن يُستمع إلينا، فقد استمعنا طويلاً للفكر الغربي، وها نحن نحصد ثمن لعب دور المستمع .. فنحن نعلم جيداً أن صندوق النقد، حتى في تقاريره التي يصدرها، تحركه مصالح وسياسات يعلمها القاصي والداني، فلا يزال - بحسب كثير من التقارير الدولية - مؤسسة تفتقر إلى الحياد، وبالتالي علينا ألا نأخذ ما يصدر عن تلك المؤسسات وكأنه قرآن منزل. فعندما يتحدث مسؤول رفيع في هذا الصندوق بأن الاقتصاد العالمي خرج بالفعل من عنق الزجاجة، فقد يكون الهدف هو إسكات الأصوات (خاصة الروسية والصينية) المطالبة بإعادة الدولار للعمل فقط داخل الحدود الأمريكية، فمع تصريح كهذا سيهدأ الجميع و"يا دار ما دخلك شر".
نعم سنخرج من الأزمة، وقد حدث ما حدث، ودفع الثمن من دفع، وسيظل الملايين يدفعون الثمن، لأن ثمن (تكلفة) الخروج من الأزمة كان باهظاً ولم يتم تسديده بعد (الدين الحكومي)، ولكن هل حددنا الجذور؟ والأسباب؟ التي هي ليست بالبنوك وتسيبها، فتسيب البنوك وأزمة البنوك هي نتاج لأزمة أكبر وأعمق، ألا وهي أزمة الليبرالية الجديدة وأزمة عدم التوازن في المبادلات العالمية.
وبناءً عليه، وحتى نرحم عالمنا من تلك الإخفاقات، علينا كدول وحكومات نامية التمسك بأمرين ليكونا محلاً للتطوير والإصلاح الجذري خلال الفترة المقبلة، وهما:
الأمر الأول: الدولار وبقاؤه كعملة احتياط ومبادلات عالمية. فقد أشار أحد الاقتصاديين الأمريكيين خلال خمسينيات القرن العشرين، أي منذ أكثر من 60 عاماً، إلى أنه لا يمكن لاقتصاد واحد أن يتحمل قيام عملته بدور عملة الاحتياط العالمي، وأن القيام بهذا الدور سيجلب الكوارث لكل من الاقتصاد العالمي واقتصاد هذه العملة. نعم.. استفادت الولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً من كون الدولار عملة العالم الأولى، ولكن اقتصادها أيضاً خسر الكثير، وتخلخل بنيانه، نتيجةً للعب هذا الدور، وهذه مسألة تتطلب مؤلفاً كاملاً لشرحها. ولكن الأزمة في الأساس هي أزمة اقتصاد أمريكي، لعب في أزمته الدولار الدور الرئيس، ولهذا فإن مصلحة الجميع (الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي) في البحث الجدي لتنويع سلة العملات الدولية، بحيث يبقى الدولار أحد أهم مفرداتها الرئيسة مع اليورو واليوان والين وحقوق السحب الخاصة. ولكن ليتحقق هذا، يلزم تجنيب المؤسسات الدولية، وخاصة صندوق النقد، سيطرة الدول الكبرى، حتى تتحرر سياساته ويكون قادراً على إبداع وابتكار أدوات جديدة.
الأمر الثاني: وهو الصين وتجارتها غير العادلة مع العالم: من منا (على الأقل الطبقة الوسطى ومن الفقراء أمثالي) لا يقتني شيئا صنع في الصين، فكل شيء حولنا صنع في الصين، من الإبرة للصاروخ كما نقول. نحن لسنا ضد تطور الصين، ولكننا ضد المنافسة غير العادلة. ليس من العدل أن تضع الفأر مع الأسد في حلبة منافسة وتجلس تنتظر النتيجة؟! بل نأمل بفوز الفأر على الأسد. فالصين كيان ضخم وقدراته جبارة، استطاع غزو كافة الأسواق تقريباً. فقط عليك مراجعة الموازين التجارية لمختلف الدول مع الصين (باستثناء الدول النفطية) ستجد - بالعين المجردة - أن صادرات الصين للدول ضعف وارداتها منها. ترتب وسيترتب على هذه التجارة غير العادلة استمرار القوي قوياً والضعيف ضعيفاً، ووأد المشروعات والمبادرات الصغيرة لحساب المنتج الصيني الزهيد وهو في الغالب منخفض الجودة.
الأهم من هذا أن الصين ورغم عضويتها في منظمة التجارة منذ عام 2001، وهي تمارس إغراقاً لمختلف الدول ودعماً غير مشروع تحظره اتفاقات المنظمة، ودليل ذلك أن جل قضايا الدعم والإغراق المرفوعة أمام منظمة التجارة مرفوعة ضد الصين! نحن لا نعارض انطلاق الصين، فهذه سنة الله في كونه، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فهي قادمة رضينا أم أبينا، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب الآخرين، حتى يكون القدوم والارتقاء مشرفاً. فالعملة (اليوان) مثبتة عند أدنى مستوى أمام الدولار لتعزيز صادراتها لباقي دول العالم، كما أن اشتراطات العمل والاشتراطات الصحية والأجور وغيرها شبه معدومة، في وقت تلتزم فيه باقي الدول الأعضاء في المنظمة بترك الاشتراطات، فهل سيكون المنتج السعودي أو الألماني الذي يتقيد بها في وضع تنافسي عادل مع نظيره الصيني؟! بالطبع لا، ولهذا صارت الصين أكبر دائن للولايات المتحدة، إذ بلغ العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين وحدها نحو 500 مليار دولار بنهاية 2008، النتيجة هي الخلل وخلخلة اقتصادات الدول الأخرى، ومن ثم الأزمات المستمرة والمتلاحقة.
فإذا لم يضمن نظام التجارة العالمي تحت مظلة منظمة التجارة العالمية عدالة التجارة خاصة مع الصين، فلا حاجة لنا إلى هذا النظام، وعلينا البحث عن آلية بديلة. فقط المطلوب تكثيف الضغط على الصين، مثلما تكثف هي الضغط على الولايات المتحدة لوضع عملة احتياط عالمي جديدة، فكل يبكي على ليلاه، فلم لا نبكي على ليلانا؟
ومن ثم، إذا لم يتم التغلب على هاتين العقبتين، فلن نضمن عدم تكرار الأزمة وبهذه الحدة، لأننا لم نغير شيئا حتى الآن، فقط حزم إنقاذ، وسرعان ما ستعود المؤسسات المالية للانطلاق. فأتمنى أن يعلو صوت الدول النامية، وهي التي لم يكن لها ناقة ولا جمل في هذه العملية برمتها، فهي مدعوة فقط للمشاركة في أحزان الدول الكبرى، ومنسية تماماً في أفراحها.
والله الموفق.