ثقافة مخالفة النظام
كل شيء لا يؤتي ثماره ولا تتحقق الأهداف المرجوة منه إلا في بيئة منظمة, فالفوضى تبدد الموارد وتبعثر الجهود وتضيّع الأهداف وتشتت الطاقات. حتى المختصون في علم الاجتماع والمهتمون بتتبع مسيرة الحضارات الإنسانية, يؤكدون أنه لا حضارة للإنسان إلا في بيئة منظمة ومنضبطة. ومن هنا تولدت الحاجة إلى القانون والنظام للخروج بمثل هذه البيئة المنظمة, التي في إطارها يمكن للإنسان أن يصنع حضارته وتقدمه. وفي البداية يشعر المجتمع بثقل هذا القانون والنظام, لكن كلما حرص المجتمع على التمسك بالنظام وشدد على تطبيقه, فإنه سيتآلف مع هذا النظام وسيتلمس نتائجه الإيجابية, ومع مرور الزمن ستكون للنظام حصانة ثقافية تمنع أفراد ذلك المجتمع على العموم من مخالفته, بل أكثر من ذلك, تجعل من تطبيقه والالتزام به أمرا طبيعيا وممارسة عفوية واستجابة لا يخالطها شعور بالتكلف أو الإكراه. أما عندما لا تمارس الثقافة دورها الطبيعي في احتضان النظام والتشجيع على التمسك به والالتزام بمتطلباته, وتمارس بدل ذلك دورا معاديا ومعاكسا وطاردا للنظام, فإن ذلك يعني أن المجتمع فعلا في حاجة إلى انقلاب على ثقافته, فالثقافة لها قوة وسلطان, وكلما تمسكت تلك الثقافة المتسلطنة على مجتمعها فإنها لا تتركه إلا بإرادة اجتماعية قوية وفعل وإصرار على انتزاع نفسه منها. وقد يشعر المجتمع برهبة وهو يواجه ثقافته, لأن التخلي عن المألوف ليس بالأمر السهل, ولهذا حرص أهل الاختصاص في علوم الإنسان والمجتمع على أن تكون هناك مراجعة ثقافية مستمرة, ومن خلال حوار بناء ومنفتح على ما يعيشه واقع ذلك المجتمع من تحديات لا مفر منها, ومن فرص يجب الالتفات إليها واستثمارها, ومن مشكلات وأزمات تجب مواجهتها والتصدي لها. وكلما استطاع المجتمع أن يبعد نفسه في هذه المواجهة الثقافية عن أجواء التشدد والاستقطابات الحادة أو تقديم الآراء والأطروحات والاجتهادات في مناخات من الانفعال والمشاعر المحتقنة, فإنه سينجح في جعل مواجهته عملية للبناء وليس للهدم فقط. انقلاب المجتمع على ثقافته يجب أن يكون أيضا انقلابا أبيض ومسالما لئلا يدخل المجتمع في فوضى ثقافية تضيع عليه إيجابيات الماضي وتفسد عليه حسنات الثقافة الجديدة. وأشد ما على المجتمع أن يحذر منه, الدخول في حالة من الاستقطاب الحاد التي تجعل كل فئة أو مجموعة من ذلك المجتمع مهتمة ومشغولة فقط بالدفاع عن نفسها, ومحاولة إلحاق الضرر بغيرها, لأن مثل هذا الاستقطاب له نتيجة واحدة فقط, وهي سقوط المجتمع وتفككه, والخسارة ستكون على الجميع. فلدعوة إلى الانفتاح والتأكيد على أهمية الحوار والتواصل, ضرورة ثقافية وحاجة اجتماعية لا تستغني عنها كل فئات المجتمع ومكوناته, فالفئات والجماعات التي تريد المحافظة على ما هو موجود في حاجة إلى الحوار والانفتاح, لأن انغلاقها على ما هو موجود خسارة لها, لأنها حتما ستخلط في دفاعها عن الحق والباطل والجيد والسيئ والمناسب وغير المناسب, وهي حاجة لا تستغني عنها أيضا الفئات والجماعات التي تسعى إلى التجديد في ثقافة مجتمعها ومراجعة ما وجدت عنده من قيم وأفكار وقناعات, لأن الحوار والتواصل هما اللذان يضمنان لها أن تؤسس لها القناعات الاجتماعية التي تكون حاضنة لمثل هذه الأفكار والآراء المجددة لثقافة المجتمع, بل إن الحوار هو الذي يمهد للإيجابي والمفيد من الموجود, وعلى الحاضر أن يتفاعل ويتكامل مع القادم والجديد, وبهكذا يضمن المجتمع لنفسه رقيا وتطورا مستداما, ويجعل من نفسه مجتمعا قادرا على أن يعيد التوازن لحركته إذا ما اعترضت طريقه بعض الهزات والمطبات الثقافية.
فمن أهم أولويات المجتمع أن يراقب مدى تقبل ثقافته النظام, ودرجة تفاعلها مع ما يراد تطبيقه من قوانين, وأن يجتهد هذا المجتمع في إزاحة ما قد يعوق تطبيق النظام وإيجاد البيئة المنظمة من قيم وقناعات ثقافية. ولو أردنا أن ندخل عميقا في ثقافة كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية, لوجدنا كثيرا من مثل هذه القيم المعوقة والمعرقلة لإيجاد البيئة المنظمة في حياتنا, وعندما نشير إلى الثقافة العربية والإسلامية فإننا نقصد بقراءتنا نحن الثقافية لواقعنا وما يحويه من أفكار وعادات وتقاليد اجتماعية وقيم ومبادئ ومثل دينية, فالثقافة قراءة للحياة, وهي منتج بشري, وبالتالي فإن الإنسان عندما يعيش التخلف في ثقافته فهو الذي يتحمل مسؤولية ذلك, وما عليه للخروج من هذا التخلف إلا أن يعيد قراءته لما بين يديه من قيم وتقاليد اجتماعية وتعاليم دينية. قراءة الإنسان المتواصلة لنفسه ولما حوله هي المدخل لتجديد ثقافته وغير ذلك جمود حتى إن كان ذلك الإنسان أو المجتمع يجلس على كنز من القيم والمبادئ والمثل النظرية التي لا نظير لها. هناك قيم معوقة, وهناك قناعات اجتماعية معرقلة للبيئة المنظمة, وبإمكاننا أن نذكر بعضها ولو بشكل مختصر جدا:
1 - فكرة النظام والتنظيم: هناك فهم متجذر في ثقافتنا يرى في النظام والتنظيم أنه تعقيد وليس تسهيلا للحياة, فهناك اعتقاد خاطئ بأن ترك الأمور كما هي أو بصريح العبارة على فوضويتها أسهل وأيسر على الإنسان. فإننا نسمع مع كل دعوة إلى نظام جديد أو إلى تطبيق نظام قديم, احتجاجا ودعاوى مضادة لإبقاء الأمور على بساطتها وعدم تعقيدها, لأن في نظرهم أن النظام مدخل لمزيد من التعقيد. والمطلوب أن نتجاوز هذه الدعاوى حتى يتلمس المجتمع الآثار الإيجابية لما يأتي به النظام على المجتمع, بشرط أن يطبق النظام هو الآخر بطريقة منظمة وبشكل مرتب ومدروس.
2 - الخلط بين الحقوق والأخلاق: هناك اتهام جدي لثقافتنا بأنها ثقافة تقدم الأخلاق على الحقوق, والنتيجة أنها ضيعت الاثنين, فالمجتمع لا تقوم له قائمة ولا يكون له وجود حقيقي وفاعل إلا بالحفاظ على الحقوق, وأما الأخلاق فدورها الأساس هو تهيئة النفوس للقبول والانقياد لهذا الحق وغير ذلك, فهو إما ضعف وإما تزلف وإما نفاق. ولو تتبعنا كثيرا من مظاهر الفوضى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية, لوجدنا أن سببها إما انتقام نفسي لحقوق ضائعة وإما حالة من الاسترخاء شجعت القوي على الاعتداء على حقوق الآخرين, فمن أهم واجبات المجتمع أن يربي أبناءه على احترام الحقوق, وأن ينتج لهم ثقافة تعلي من قيمة الحقوق, وتشدد في خطابها على أهمية التمسك بها.
3 - ضعف دور المجتمع: إن أهم ما وصلت إليه الخبرة الإنسانية هو أن المجتمع كلما أتيحت له الفرصة لإدارة نفسه وتدبير أموره كان أقدر على تنظيم نفسه, ومن هنا جاءت فكرة الإدارة المحلية التي فعلت العجائب في تطوير المجتمعات في الدول المتقدمة. أما في مجتمعاتنا فهناك نظرة ثقافية ترى أن المجتمع بطبيعته عاجز عن أن يدير نفسه, وإتاحة هذه الفرصة له قد تعني مزيدا من الانقسام والفتن, وبالتالي فإن اتقاء مثل هذه الأمور يتطلب تجنيب المجتمع إدارة نفسه, وهكذا مجتمع لا يشعر بالمسؤولية من الصعب أن نجعل منه مجتمعا يقبل على النظام وتطبيقه.
إذا كانت حتى الفوضى التي قد يعتقد بعض الناس وجودها في الكون أن صار لها نظام وقانون عند علماء الفيزياء, فإن أي مجتمع لا يمكنه أن يعيش الفوضى وهو يطمح إلى تنمية نفسه وتطوير واقعه, ولم تعد البيئة المنظمة مطلبا مؤقتا أو حاجة مرحلية, لأن أمام كل تحد هناك حاجة إلى مزيد من التنظيم للمجتمع, وأمام كل مشكلة أو أزمة قد يعانيها المجتمع هناك حاجة إلى مزيد من التطوير لما عليه المجتمع من تنظيم لتجاوز مثل هذه المشكلات والأزمات.