الذات .. بين التمجيد والتحقير

أنهينا المقال السابق بالإشارة إلى آثار فلسفة حركة تقدير الذات وبالخصوص إلى قصة حكاها ناثانيل براندن (طبيب نفسي و خبير ومدرب شهير في تقدير الذات) في أحد كتبه عن رجل متزوج لمدة 30عاما، جاءه ناشدا النصيحة بعد أن أقام علاقة مع امرأة أخرى. ويقول براندن إن الرجل زهد في زوجته، ولكنه لم يزل يشعر بالذنب تجاهها، فهي التي ظلت وفية له وأنجبت له 3 أولاد وعاشرته بالمعروف.. فبما ظنكم نصحه براندن؟ هو يقول إنه طرح على الرجل سؤالا (يُفتَرَض أنه سؤال فطن ونبيه!): لو قيل لك إنك ستموت بعد 6 أشهر، كيف ستعيش ما تبقى لك من العمر؟ وكان الجواب اللحظي للرجل أنه سيترك زوجته ويعيش مع المرأة التي ''يحب''، فهذه رغبته الحقيقية. ولكن في الواقع، قرر الرجل بعد ذلك أن يُبقي على زواجه ويقطع علاقته بالأخرى، ما أدمى قلب براندن! فهو في الحقيقة يورد هذه القصة متباكيا على قرار الرجل من حيث أن فيه قلة تقدير للذات وعدم إيمان بحقه في السعادة.. أي أنه - وفي رأي هذا الخبير - كان ينبغي على الرجل أن يحطم زواجه بسبب نزوة!
ما رأيكم؟ هل معنى هذا أن ''تقدير الذات'' أصبح أعلى قيمة إنسانية، وأفسحت له المجال كل القيم الأخرى مثل الوفاء والمسؤولية وضبط النفس إلخ؟ وأي عالم نعيش فيه لو فكر كل فرد - أو نسبة كبيرة من الأفراد - بهذه الطريقة الصبيانية؟
قد يرى البعض أن هذه الحكاية لا تمثل مضامين حركة تقدير الذات الواسعة لأنها حالة خاصة، إلا أن المتمعن في هذه الفلسفة سيجد أنها لا تقول للناس اضربوا بكل القيم عرض الحائط.. صحيح.. ولا تقول لهم كونوا أنانيين.. ولا تقول لهم أنتم آلهة (والعياذ بالله)، لكم ما تشاءون وقادرون على أي شيء(البعض يصرح بهذا)..نعم، لا أحد يقولها بهذه الطريقة المباشرة الساذجة، ولعل كثيرا من مهندسي هذه الفلسفة لا يستوعبون هم أنفسهم مدى بعدها عن الاتزان والواقعية.. ولكن هذا ما تلف حوله وتدور هذه الفلسفة المتداخلة إلى حد كبير مع فلسفة العصر الجديد (New Age) كذلك والتي غزت العالم وعليها مآخذ كثيرة. وإلا ماذا يتوقع أي عاقل من تمجيد الذات وسعادتها ورغباتها دونما معيار غير الفوضى والبهيمية ...والتعاسة طبعا على عكس المرجو.
هل نحقر الذات إذن ونحطمها؟ أو هل من ازدرى نفسه قد تحرر من العبودية لذاته؟ على العكس، فإن تمجيد الذات وتحقيرها وجهان لنفس العملة : التمركز حول الذات والهوس بها.. كيف؟ لأن الذي يحقر ذاته ويجلدها لا يزال يعطيها أكبر من حجمها.. فهو ما شعر بهذا الازدراء لذاته إلا بعد أن سبقه تصور غير واقعي عن عظمتها أو خيريتها أو قدراتها إلخ، فعندما صدم بالواقع نزل عليها كالصاعقة لأنه ما توقع ذلك من تلك الذات العظيمة، ولو قدَرَها حق قدرها وعرف أن بها مواطن قوة لا تتأتى إلا من خلال ضبط النفس وتهذيبها، ومواطن ضعف شديد وقصور وفقر ملازم لها، وبالتالي تعلم كيف يتعامل مع هذه الجوانب (وفي حالة المسلم، فإن الأمر واضح في هذا الخصوص).. لو فعل ذلك، لما كان رد فعله بهذه الحدة ولكان موضوعيا أكثر في التعامل مع زلاتها وقصورها.
فلا تمجيد للذات ولا تحقير لها! ماذا تريدين منا إذن؟ سنجيب هذا السؤال في المقال القادم الذي سيكون الأخير، بإذن الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي