إشكالية قوة الأفكار والعقائد

المرض في أبسط تعريف له هو علة أو خلل يصاب به الإنسان ولكن أشد ما على الإنسان أن تكون علته في عقله وأن يصاب بمرض في تفكيره لأن مثل هذا الاعتلال أو المرض ولو كان بسيطا قد يفقد الإنسان جزءا من توازنه وقدرا من شخصيته. الأمم والشعوب هي الأخرى قد تبتلى بأمراض اجتماعية وعلل نفسية ولكن أخطر ما عليها هو أن تصاب في عقلها ونفسها وتهتز بذلك شخصيتها وقدرتها على الحياة بشكل متوازن, فكلما وجد مجتمع ما نفسه وهو يعيش حالة من الفوضى والتخبط فإن عليه مراجعة ما يختزن في داخل نفسه من عقائد وقناعات فكرية لأن العلة فيها تعني عدم الاستعداد النفسي والعقلي والثقافي للحركة المتوازنة والعيش المنضبط. عقل المجتمع هو عقيدته, وخلايا هذا العقل هي مجموع ما يحمله ويأخذ به من عقائد وقناعات وعليه فأشد ما يجب أن يحرص عليه أي مجتمع عقائده وقناعاته الفكرية ولأجل أن يكون هذا الحرص بوعي وليس رغبة طائشة فعلى المجتمع أن يُرَشّد أيضا من حرصه هذا لئلا يتسبب هذا الحرص نفسه في حدوث العلة والمرض.
هناك عدة محاذير وأمور يجب أن يلتفت إليها أي مجتمع في التعامل مع عقائده, فأولا ولعله أهمها ألا يدخل في العقائد ما ليس هو بعقيدة, فمشكلة الإنسان أنه إذا أحب فكرة أو رأيا واعتقد بأهميتها فهو يريد تعظيمها وتقديسها وجعلها من العقائد هو خير وسيلة وأسهل طريقة لإقناع نفسه والآخرين بعظمة وقدسية هذه الفكرة. وقد تأخذ الفكرة قدسيتها على أنها عقيدة مع طول مدة ارتباط الناس بها, فبقاء بعض الأفكار حية في المجتمع مع أن وجودها في الأصل كان استجابة لحاجات وظروف ذلك الزمان يجعلها مؤهلة عند بعض المجتمعات إلى أن تصبح من العقائد. فقد تختل عقيدة مجتمع ما الكلية لكثرة ما يضيف إليها هذا المجتمع من عندياته إضافات جديدة, فبعض العادات قد تتسرب إلى العقائد وبعض التقاليد قد ندفع بها إلى مصاف العقائد بدافع الحفاظ عليها وحث المجتمع على التمسك بها, وقد تتحول بعض اجتهادات الأفراد الذين نحبهم ونجلهم إلى عقائد نتمسك بها ولو أن العمر طال بهؤلاء الأفراد وغيروا من اجتهاداتهم لكفرناهم على فعلتهم هذه. مشكلة بعض المجتمعات أنها استسهلت موضوع العقائد فصارت تضيف إليها كل يوم من الأفكار والآراء والاجتهادات ما جعلها مجتمعات ثقيلة الحركة وبطيئة في تقبلها للتغيير لكثرة ما عندها من عقائد كثير منها في أصلها أفكار واجتهادات ليس إلا. وهناك مشكلة ولعلها في الوقت الحاضر من أمهات المشكلات التي تعانيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية وهي أنها صارت لا تفرق بين قوة العقيدة وصحتها, فصرنا ننظر لقوة العقيدة وشدة التمسك بها على أنها دليل على صحتها, وهذا المسلك جرنا لنعطي كل جهدنا وبحثنا لتثبيت العقائد في نفوسنا وفي نفوس أتباعنا ولا نعطي إلا القليل للتثبت من صحة العقائد التي نعتقدها أو نأخذ بها أو التي نقلت إلينا. هذه المشكلة قلبت كثيرا من الموازين عندنا وصارت العقائد بدل أن تزيدنا قوة ووحدة في مجتمعاتنا صارت وبالا علينا ومصدرا لانقسام مجتمعاتنا, فصار عندنا كل شيء عقيدة والدفاع عن العقيدة حق مقدس. وإذا فتح المجتمع بابه لمثل هذه الثقافة فإنه سيخرج من الباب نفسه ما قد يريده ذلك المجتمع لنفسه من وحدة واستقرار وتواصل وفاعلية. فكل مجتمع من حقه أن ينتج أفكارا وآراء وأن يخرج باجتهادات ورؤى تطوره ومجتمعاتنا العربية والإسلامية تعاني ضعفا شديدا في عالم الأفكار وهزالا واضحا في مجال الآراء والاجتهادات ولكن ما يزيد طيننا بلة أننا على قلة أفكارنا الجديدة صرنا ندفع بها وبأفكار قد نستوردها من زمن ليس بزمننا ومن ظروف قد لا تشابه ظروفنا ومن مجتمع قد لا يحاكي مجتمعاتنا إلى مصاف العقائد المقدسة عندنا. من سمات المجتمعات المتخلفة النقص في الأفكار والكثرة في المعتقدات بسبب ما يضاف إليها ما هو ليس بعقائد. ويمكننا أن نذكر البعض من الأمور التي قد تساعد على فك هذا الالتباس الثقافي بين صحة العقيدة من جانب وقوتها من الجانب الآخر:
1- الإنسان وطبيعة مفهوم العقيدة: إن الإنسان يكتسب العقيدة بعقله الظاهر ولكنها تستقر في عقله الباطن. ليس كل ما يقتنع به العقل الظاهر يدخل العقل الباطن ولكن من يدخل من هذه القناعات إلى الباطن وعالم اللاشعور فإنه سيكون لمثل هذه القناعات دور كبير في رسم معالم شخصية ذلك الإنسان. ولكن المشكلة أن العقل الظاهر قد ينخدع أو يموه عليه فتعبر من بوابته ليس فقط الحقائق بل حتى الأوهام والخرافات والخيالات لتشكل بعد دخولها إلى العقل الباطن عقائد وقناعات راسخة قد تدفع بحاملها إلى التضحية حتى بنفسه وحياته من أجلها. فقد يظهر إنسان ما قوة في الاعتقاد وشدة في الالتزام وحماسة في الدفاع عما يعتقد ويقتنع به من أفكار وإن كانت هذه الأفكار هي في حقيقتها أوهام وأشباه أفكار لا وجود لها في الواقع, لا بل قد تجد أناسا يدافعون عن أوهامهم بحماسة أكبر من دفاعهم عن الحقائق الكبرى التي يأخذون بها والتي هي راسخة في نفوسهم.
2 - الإنسان وانفعاله بما يقتنع: ما قد يظهره الإنسان من قوة وشدة في التعبير عن قناعاته ومعتقداته له علاقة بانفعاله مع ما يعتقد أو يقتنع به, وقد يعتمد انفعال الإنسان مع ما يقتنع ويعتقد به بالظروف المحيطة به أو بالموقع الذي يشغله أو بالمصلحة التي يرتجيها. فالانفعال وما ينتجه من مظاهر قوة وحماسة ليس بالضرورة يعبر عن صحة الفكرة التي يقتنع بها الإنسان, بل إن هذه المظاهر ما هي إلا مؤشر على درجة تفاعل ذلك الإنسان مع يقتنع به. وكلما كانت دراية المجتمع بأصول الحوار الموضوعي ضعيفة صار الانفعال سيد الموقف, بل إن المجتمع نفسه ربما هو من يطالب بتسخين المشاعر وتأجيج العواطف ظنا منه أن هذا الأسلوب هو خير وسيلة للانتصار لعقيدته وقناعاته, وربما تستثمر هذه الرغبة الاجتماعية من قبل المتنفذين أو المنتفعين في ذلك المجتمع لتمرير أطروحاتهم المتشددة التي يستقبلها المنفعلون على أنها تأكيد آخر على صحة ما يعتقدون أو يقتنعون به. والمنفعل قد تتعطل عنده كثير من قواه النفسية, وبالتالي يكون من الصعب الحوار معه بل إن الحوار نفسه قد يزيده تصلبا وتشددا ودفاعا عما يعتقد أنه من المعتقدات, ولا يعني هذا أن الانفعال بشكل مطلق شيء سلبي بل من الطبيعي أن ينفعل الإنسان, خصوصا مع معتقداته وقناعاته, ولكن ما يجب أن نعرفه هو أن الإنسان ينفعل عموما مع ما يقتنع به, وما يقتنع به ليس بالضرورة أن يكون صحيحا أو حقا.
قد يظن البعض أن الخوض في مثل هذه المسائل يدخل في باب التنظير الذي لا يعود على المجتمع بفائدة, ولكن لو تتبعنا كثيرا من مشكلاتنا التي تعانيها مجتمعاتنا لوجدناها تدور في فلك هذا الالتباس الثقافي بين صحة العقيدة وقوتها, فالتشدد صار المطلوب اجتماعيا, ووقود هذا التشدد هو الانخداع بمظاهر القوة في العقيدة لأن في نظر الكثير أن التمظهر بقوة العقيدة هو تعبير عن صحة معتقداتهم وقناعاتهم, والحوار مرفوض لأن مجرد الموافقة على الجلوس للحوار مع الطرف الآخر المختلف هو ينم عن ضعف فيما نعتقد به أو نأخذ به من قناعات فكرية. وقد لا نجد تفسيرا لما نجده في مجتمعاتنا من هذا الاستقطاب الحاد في كل شيء نختلف عليه إلا لأننا لم تعد تستهوينا فكرة ما ما لم يصاحبها صراخ وعويل وخطب رنانة وربما عنف ودماء لأننا لا نفرق بين صحة الفكرة وقوة الدفاع عنها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي